الحرب على غزّة... فأضعفت مصر
مقالات

الحرب على غزّة... فأضعفت مصر

من المسلّمات التي لم تعد قابلة للجدل أنّ حرب الإبادة على قطاع غزة تتجاوز في أهدافها وأبعادها حدود العمل العسكري المباشر أو الردّ على هجوم السابع من أكتوبر 2023، إذ تكشف في جوهرها عن تحوّل استراتيجي أوسع يهدف إلى إعادة صياغة المشهد الفلسطيني والإقليمي برمّته.

الحرب لا يمكن فهمها إلا في سياق الدور الأميركي العميق في توجيه مسارها السياسي والميداني، إلى جانب المساعي الإسرائيلية المستمرة لتكريس واقع جديد يخدم مشروعها الاستيطاني الطويل الأمد. بهذا المعنى، لم تعد الحرب مجرد قتال، بل تحوّلت إلى أداة لإعادة هندسة البنية الجيوسياسية للمنطقة وإعادة توزيع مراكز النفوذ فيها، بما في ذلك تهميش الدور المصري التاريخي في إدارة الملف الفلسطيني.

ضمن الإطار العام لخطة ترامب، بما تتضمنه من ترتيبات أمنية جديدة وإحكام للسيطرة على المعابر، تحاول إسرائيل فصل قطاع غزة فعليًا عن العمق الجغرافي المصري، وتحويله إلى كيان معزول لا يتصل بالعالم الخارجي إلا عبر بواباتها هي. هذا الإجراء لا يمكن النظر إليه كخطوة أمنية فحسب، بل كجزء من مشروع استراتيجي متكامل يهدف إلى انتزاع أوراق القوة من يد القاهرة وتقليص دورها التقليدي في إدارة الصراع الفلسطيني وفي موازين التفاوض المستقبلية. وهذا ما يُفسِّر أيضًا غضب إسرائيل إزاء قرار الولايات المتحدة السماح بإدخال معداتٍ مصريةٍ إلى قطاع غزة للمشاركة في أعمال البحث عن جثث القتلى.

وهكذا، لم تعد حرب الإبادة على غزة مجرد ردة فعل على السابع من أكتوبر، بل تحوّلت إلى محطة مفصلية في مشروع أميركي–إسرائيلي يرمي إلى إعادة رسم الخريطة السياسية والإقليمية، وتكريس نظام جديد يضمن لإسرائيل تفوقها الأمني والديموغرافي تحت إشراف مباشر من الولايات المتحدة.

في هذا الإطار، تُعدّ السيطرة الإسرائيلية على مدينة رفح خلال حرب الإبادة لحظة مفصلية لا يمكن قراءتها بوصفها خطوة عسكرية بحتة، بل كتنفيذ فعلي لتوجّه أميركي يرمي إلى إعادة رسم خطوط السيطرة والعبور والاتصال في المنطقة الحدودية. فالولايات المتحدة، التي تدير تفاصيل المشهد الفلسطيني – الإسرائيلي بدرجة عالية من التدخل، دفعت الجيش الإسرائيلي نحو هذه الخطوة لتأمين الانفصال الجغرافي بين غزة ومصر، بما يُضعف القاهرة سياسيًا واستراتيجيًا ويحدّ من قدرتها على التأثير في ترتيبات ما بعد الحرب. وهكذا يتحوّل قطاع غزة إلى مساحة مغلقة تخضع لإشراف أمني وإداري إسرائيلي كامل، في حين يُعاد تشكيل بنيته بما يتوافق مع الرؤية الأميركية لإعادة ترتيب الإقليم.

وتُدرك القاهرة خطورة ذلك، إذ ترى في غزة الغلاف الجغرافي والأمني المباشر لحدودها الشرقية. فسيطرة إسرائيلية كاملة على القطاع تعني عمليًا قيام منطقة تماس مباشرة بين مصر وإسرائيل، وهو واقع ميداني يحمل في طياته احتمالات إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي المصرية بذريعة الأمن، الأمر الذي يُعدّ مسًّا صريحًا بالسيادة المصرية وتهديدًا استراتيجيًا طويل الأمد. لذلك، تتمسك مصر بضرورة بقاء إدارة فلسطينية داخل القطاع – سواء من خلال السلطة الوطنية أو صيغة فلسطينية توافقية – باعتبارها خط دفاع سياسي وأمني يحمي حدودها ويمنع تمدد السيطرة الإسرائيلية حتى بوابة رفح. فأن يُدار القطاع من قِبل الفلسطينيين يشكّل بالنسبة لمصر ضرورة وجودية تضمن لها استمرار دورها الإقليمي في الملف الفلسطيني وصون أمنها القومي من التحوّل الجغرافي الذي قد يجعل غزة امتدادًا للنفوذ الإسرائيلي على تخوم سيناء.

وفي ظل هذا المشهد، تظهر مؤشرات ميدانية على أن ثمة مخططًا لإنشاء نموذج جديد لتقسيم القطاع إلى منطقتين واضحتين: الأولى تُعرف بما يُسمى المنطقة الصفراء، وهي نطاق يُفترض أن تبدأ فيه مشاريع الدعم والإعمار تحت إشراف دولي وربما عربي. والثانية تُترك تحت نفوذ حماس لتُقدَّم للعرب باعتبارها المساحة التي تحتاج إلى إدارة إنسانية أو أمنية. هذا التقسيم لا يبدو نهائيًا، لكنه يمثل مرحلة تجريبية في مشروع إعادة هيكلة القطاع بما يتجاوز أي حل سياسي شامل، ويهدف في جوهره إلى تفريغ القضية من بعدها الوطني وتحويلها إلى ملف إداري تُديره الأطراف الخارجية.

في العمق، لا تسعى الولايات المتحدة إلى تسوية سياسية حقيقية بقدر ما تهدف إلى صياغة هندسة جديدة للمنطقة تحفظ استقرار إسرائيل وتعيد ترتيب السكان والجغرافيا وفق مصالحها. فالغاية ليست إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، بل تحويل الفلسطينيين إلى جماعة بشرية بلا تعريف جغرافي أو سياسي محدد، تتصل بالعالم عبر الأردن في الضفة الغربية، وعبر مصر – أو بدائل أخرى – في غزة، بينما تبقى إسرائيل الممسكة فعليًا بكل المساحة الممتدة بين النهر والبحر.

ولا يعيد هذا التصوّر إنتاج تجربة عام 2007 في الضفة الغربية، بل يؤسس لنموذج جديد يقوم على شراكة إقليمية انتقائية مع بعض الدول العربية، بحيث تتولى هذه الدول أدوارًا لوجستية أو إنسانية في إدارة القطاع، بينما تحتفظ إسرائيل بسيطرتها الأمنية والسياسية المطلقة.

تراهن واشنطن على أن هذا الترتيب سيحقق لإسرائيل استقرارًا داخليًا، ويقلّص الوجود السياسي الفلسطيني إلى حدوده الدنيا. في هذا الإطار، تصبح الحرب وسيلة لإعادة توزيع السكان وإعادة تعريف الكيانات، لا لإنهاء المواجهة أو التوصل إلى تسوية.

ما يجري إذًا ليس مجرد حرب، بل فصل جديد من مشروع استعماري استيطاني يُعاد إنتاجه بأدوات ناعمة وبخطاب مموَّه. فبينما تكشف الحرب عن الوجه العاري للمشروع الإسرائيلي، فإنها تضع في الوقت ذاته الفلسطينيين والعرب أمام واقع جديد يتمثل في مواجهة الولايات المتحدة نفسها بوصفها صاحبة القرار الحقيقي والمشرف على إعادة ترتيب الإقليم. وإذا كانت الخطة الأميركية – الإسرائيلية تهدف إلى تصفية البعد الجيوسياسي للقضية الفلسطينية، فإن التحدي اليوم يكمن في قدرة مصر والعالم العربي على كسر هذا المسار، واستعادة المبادرة عبر مبادرة سياسية بديلة تعيد إدخال البُعد العربي والإقليمي الإيجابي في صياغة المشهد الفلسطيني وفق المصالح الفلسطينية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.