
أزمة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية النرويجية الإسرائيلية
انقلبت العلاقات النرويجية الاسرائيلية مؤخرا من التأييد المطلق الى المواجهة المحتدمة، وتجلت ابهى صور الاحتدام باعتراف النرويج بالدولة الفلسطينية العام الماضي، في اعلان ثلاثي شمل كل من النرويج واسبانيا وايرلندا. ومؤخرا اوقف صندوق الثروة السيادي النرويجي استثماراته في اسرائيل، معلنا بيع حصصه في احدى عشرة شركة اسرائيلية، ما تسبب بخسائر اقتصادية فادحة، حيث يعد الصندوق اكبر صندوق ثروة سيادي في العالم ويمتاز بسمعة صارمة ومعيار للنزاهة والكفاءة، وذلك بفضل مجلس الاخلاقيات الذي يعكف على مراجعة الاستثمارات ومدى ملائمتها للقوانين والتشريعات الناظمة لعمل المجلس والصادرة عن وزارة المالية النرويجية. ويدير أصول تبلغ قيمتها قرابة ترليون وثمان مائة مليار دولار.
ومن هذه الشركات على سبيل المثال لا الحصر، الشركة العسكرية المعروفة باسم "بين شيمش انجنز"، التي تقدم الخدمات لبعض الصناعات المتعلقة لمحركات الطائرات. وشركة الاتصالات الاسرائيلية "بيزك"، ويشمل عملها تقديم خدمات للمستوطنات، وشركة العال للطيران، واكبر سلسلة متاجر تخفيضات "رامي ليفي" العاملة في المستوطنات. وبذلك انكمشت محفظة الصندوق من 61 الى 44 شركة. وتحولت مواقف الدبلوماسية النرويجية من الدعم المطلق، الى الشجب والتنديد، ومن ثم الى اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية صارمة معلنة بذلك الحرب الدبلوماسية والاقتصادية على اسرائيل، مقدمة بذلك قيمها الاخلاقية على مصلحتها الاقتصادية.
الخشية الاسرائيلية تتسع من تفشي العدوى الاستثمارية وانتشار الفكرة عالميا، حيث صرح مسؤول مصرفي اسرائيلي لصحيفة يدعوت ارحنوت ان الوضع الحالي في اسرائيل يدفع المستثمرين الى سحب اموالهم، وان هناك ضعف في الاقبال على شراء السندات الاسرائيلية الامر الذي يعد ظاهرة لم تحصل منذ سنوات طويلة، وان اسرائيل تعاني من عدم ترحيب اقتصادي من قبل بعض دول العالم، وهناك شركات اسرائيلية في خطر لفرض بعض الكيانات الدولية لمقاطعة غير رسمية على المصانع الاسرائيلية وتتجنب الاستثمار في اسرائيل.
ولفهم طبيعة العلاقات الاسرائيلية النرويجية بصورة معمقة وادراك حجم خسارة اسرائيل للنرويج كداعم دولي مهم واستراتيجي، لا بد من العودة الى جذور العلاقات الصهيونية النرويجية، لفهم دوافع الدعم التاريخي يتوجب العودة الى قراءة التاريخ. ففي الحرب العالمية الثانية اقدم ادلوف هتلر على احتلال النرويج التي لم تكن مشاركة في الحرب انذاك، ولكن لاسباب جيوسياسية فرض سيطرته عليها، ونتيجة لذلك وقع الشعب النرويجي في معضلة حقيقية، فقد تماهى جزء من الشعب النرويجي ومكوناته مع هتلر وعمل لصالحه من خلال تشكيل حكومة موالية للنازية. وعارض جزء اخر الاحتلال الالماني وقاومه بكافة الطرق الممكنة. ونتيجة لذلك، فقد عامل هتلر المعارضين النرويجين معاملة اليهود وتعرضوا لمعاناة حقيقية. وان الجزء الذي اصطف مع هتلر والمتمثل بالشرطة النرويجية اقترفت جرائم ومآسي بحق اليهود، ما دفع الشعب والحكومة النرويجية الى التعاطف ودعم انشاء الكيان الصهيوني على الاصعدة كافة اقتصادية كانت ام سياسية، كتكفير عن عقدة الذنب تجاههم.
وفي العام 1947 وقفت النرويج لجانب المشروع الصهيوني وصوّتت لصالح قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، رقم (181). ولعب اول امين عام للامم المتحدة وهو النرويجي الاصل تريغف هالفدان لي دورا محوريا في اصدار قرار التقسيم، -الذي كان من كوادر الحكومة المنوائة لحكومة هتلر-، وشغل عدة مناصب وزارية في حكومات بلاده. وقدم تسهيلات ومساعدات سياسية ودبلوماسية عظيمة للكيان الصهيوني لحد وصفه بان المشروع الصهيوني بـ "طفله الخاص" وأعظم إنجاز له كأمين عام. وكان يحرص على عقد لقاءات بصورة مستمرة وبشكل سري في منزله مع قادة الوكالة اليهودية، وسرب لهم معلومات دبلوماسية وسياسية وعسكرية غاية في الاهمية دعماً لجهودهم.
الدعم النرويجي لاسرائيل كان بلا حدود ومستمر، لدرجة ان الاحزاب النرويجية جمعت التبرعات لشراء مواد البناء والخشب وارسلوها الى الكيان الصهيوني لبناء اوائل المستوطنات الاسرائيلية في العام 1948، ووضعت النرويج في مقرراتها الدراسية مواضيع لتعليم وتثقيف النرويجيين بشأن اسطورة ارض اليهود وحلم اسرائيل وتمجيدها. كما قدمت النرويج للكيان الصهويني 20 طن من الماء الثقيل لبناء مفاعل ديمونا -والذي كان جزء من مشروع هتلر لتصنيع القنبلة النووية-، وفضلت دعم بناء المشروع النووي الاسرائيلي على نفسها بسبب التزامها بمعاهدة انتشار الاسلحة النووية. وسخرت لاحقا الجهود كافة لادارة الصراع الفلسطيني والمساهمة في ايجاد حلول سلمية لذلك. ولعبت دورا تاريخيا في ادارة الصراع الفلسطيني، والمتمثل برعايتها لاتفاق اسلو الذي تمخض عنه قيام السلطة الوطنية الفلسطينية على الارض المحتلة، والتأسيس لبناء المؤسسات الفلسطينية في دولة مستقلة ذات سيادة. ونتيجة لهذا الدعم اللامحدود اعتبر الرئيس الاسرائيلي الاسبق شمعون بيرس في كتابة "الشرق الاوسط الجديد" ان النرويج هبة من السماء. ولاحقا لاصدار كتابه تفاخر في العام 2007 بقوة الاقتصاد الاسرائيلي، منوها الى ان اسرائيل تشتري عدد من الدول الاوروبية باموالها بما فيها النرويج.
وجاء التغيير في العلاقات الدبلوماسية النرويجية الاسرائيلية بعد الحرب الاسرائيلي على قطاع غزة في العام 2014، بالاضافة الى الممارسات الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني التي اعادت لاذهان النروجيين شعبا وحكومة الظلم التاريخي، الذي لحق بهم خلال الحرب العالمية الثانية وممارسات هتلر العنصرية تجاههم. وان الكيان الصهيوني بات ينتهج ذات الممارسات الذي اقدم عليها هتلر، ما دفعهم للشعور بمعاناة الفلسطينيين وما حل بهم من ظلم شابه ظلمهم والمهم التاريخي. وكان لزيارة وزيرة خارجية النرويج اين ماري اريكسن في العام 2018، وكذلك زيارة وزيرة الخارجية النرويجية أنكين هويتفلدت في العام 2022، بالغ الاثر في تغيير انطباعات النرويج السياسية تجاه الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، جراء ما تم مشاهدته ورصده من توسع استيطاني وممارسات قميعة واجراءات تعسفية بحق الشعب الفلسطيني، بالاضافة الى رفض رئيس الحكومة الاسرائيلية في حينه يائير لبيد لقاء الوزيرة هويتفلدت، على خلفية قرار النرويج مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية عبر وضع علامات خاصة تميزها.
العوامل مجتمعة دفعت النرويج للاعتراف بدولة فلسطين العام الماضي. وذات العوامل دفعتها لاخراج السفير الاسرائيلي من العاصمة اسلو ووضعته في قرية بعيدة شيء ما عن العاصمة، جراء تنامي ظاهرة الغضب لدى النرويجيين لانزعاجهم منه واستيائهم من جرائم حكومته. كما نصحت الحكومة النرويجية الملك هارلد الخامس عدم توجيه رسالة تضامن مع الكيان الصهيوني خلال الحرب الاخيرة على قطاع غزة. ومنعت النرويج غواصات اسرائيلية من الاقتراب من مياهها الاقليمية ورفضت استقبالها في موانئها، وهي الغوصات التي اشترتها اسرائيل من المانيا، وكان من المفترض فحصها تقنيا وفنيا على شواطى النرويج، واتهم بنيامين نتنياهو على اثرها بقضايا فساد شابت عملية الشراء. ولم تكتف النرويج بذلك بل بادرت الى رفع مذكرة الى محكمة الجنايات الدولية طالبت فيها باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. واعلنت صراحة انها ستعتقل نتنياهو اذا دخل اراضيها وفقا لما اعلنه نائب وزير الخارجية النرويجي اندرياس كرافيك، وستنفذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية. ورفضت استقبال سائحين من اسرائيل ومنعتهم من دخول البلاد.
مواقف النرويج تأتي كمحاولة لاعادة الاعتبار الى الاجماع العالمي الذي تبلور عقب الحرب العالمية الثانية ببناء المنظومة القانونية والمؤسساتية والاخلاقية، وردع الكيان الصهيوني المتمرد على هذا الاجماع. وان ما يحدث في غزة أسوا من الجحيم ذاته، واعتراف ضمني بالخطأ التاريخي الذي لحق بالقضية الفلسطينية. لذلك، فهذا الموقف يعتبر منعطفا حادا لحث الدول الاوروبية على اتخاذ مواقف مشابهة لردع سلوك الكيان الصهيوني الذي فاق حد الوصف، بما يشكل رادعا لوقف عنجهية نتنياهو، الامر الذي لاقى صدا لدى العديد من الدول الاوروبية لاتخاذ اجراءات مماثلة وعلى رأسها اسبانيا.
وهذا يحتم علينا كفلسطينيين ان نعيد ترتيب علاقاتنا الدبلوماسية بمنهج استراتيجي يعزز تجذير هذه العلاقة ويمتنها ويفتح افاق التعاون ويؤصلها في المجالات كافة سواء كانت ثقافية واقتصادية وسياسية. وان يتم ترويج للفكرة النرويجية في انحاء العالم، وان يتضمن الخطاب وقف الدعم الذي يتأتى بالاساس من اموال دافعي الضرائب لصالح ابادة الشعب الفلسطني والتطهير العرقي، وقيادة حملات اعلامية مدروسة واستراتيجية تتبنى رسائل تتمحور في جوهرها بان الحكومات تفضل تحويل اموال الضرائب للكيان الصهيوني على حساب مصالح شعوبها.
كما انه لا بد من تقديم القيم الاخلاقية السامية والاستجابة الى دعوات الجماهير العالمية لضمان عدم تحويل الاموال لاسرائيل لدعم تبجحها وخروجها على القانون الدولي، وانتهاك الاعراف والقيم الانسانية التي لطالما تغنى بها الغرب. وتوظيف تصريحات المسؤولين والمؤثرين واصحاب الرأي ومن ضمنهم وزير الخارجية الاسترالية الاسبق بوب كار، عندما قال ان اللوبي الصهيوني يضع مصالحه فوق السياسات الاسترالية، ولا يوجد في انحاء استراليا من يفضل دولة اخرى على الدولة التي يعيش فيها الا اللوبي الصهيوني، وان يما يتم في امريكا بات واضحا، حيث ان من لم يحظى بدعم اللوبي الصهيوني لا يمكنه الفوز في المناصب السياسية، وبالتالي يتم استخدام اموال الضرائب والتبرعات للتدخل في صناعة القرار السياسي الداخلي.

خطة المعاصي والمآسي

كاتب بهآرتس: ترامب أنقذ إسرائيل من الانتحار السياسي

كيف يعيش الناس في قطاع غزة بعد عامين من الحرب؟

ترامب ونتنياهو: خطة “السلام” التي تعيد تدوير صفقة القرن

من البيان إلى الميدان.. أين ستتجه إسرائيل بعد عرض حماس؟

الضفة: مصيدة المتاهة

وقف المذبحة في غزة أولاً حياة البشر أهم من أي خطة سياسية
