
الوعي المزيف بالقدرة في زمن الذكاء الاصطناعي
اليوم وفي ظل الانفجار التقني والمعلوماتي في الوقت ذاته، لم يعد الوصول إلى المعلومة كما كان. فيكفي أن تفتح هاتفك لتجد أمامك آلاف الصفحات والمقاطع والملخصات التي تدّعي أنها تلخص لك العالم في دقائق. هذه السهولة خلقت ظاهرة مقلقة للمشهد الثقافي والأدبي، فبالرغم من الجانب الإيجابي الذي وفّرته من حيث وفرة المعلومات وسرعة الوصول اليها، إلا أنها أيضا خلقت شعوراً زائفاً بالقدرة والمعرفة. فللأسف أنّه أصبح الكثيرون يظنون أنهم خبراء لمجرد أنهم قرأوا منشورًا أو شاهدوا فيديو قصيرًا، بينما الحقيقة أنهم لم يتجاوزوا سطح الموضوع.
ما يحدث اليوم ليس مجرد تطور طبيعي للتكنولوجيا، بل تضخيم للوهم، فمنصات التواصل الاجتماعي منحت من لا يملكون خبرة كافية منابر للتأثير، وصار من السهل أن يتصدر المشهد من يحسن الصخب لا من يملك العمق، فقد بتنا أمام جيل يحفظ المصطلحات ويردد الشعارات، لكنه يفتقر إلى أدوات التحليل والفهم الحقيقي.
في العالم العربي، الوضع ليس بأحسن حالاً، فقد تضاعف هذا الخطر بسبب ضعف الرقابة على المحتوى الثقافي والمعرفي، كثير من الكتب والروايات والمطبوعات تجد طريقها إلى القراء بلا مراجعة حقيقية، ما لم تتعرض للخطوط الحمراء السياسية، أما مضمونها فيمرّ دون مساءلة، مهما كان سطحياً أو مشوشاً.
وهكذا، صارت المنصات مليئة بـ"خبراء" و"مفكرين" و"مؤلفين" يصنعون حضورًا رقمياً أكثر مما يقدمون قيمة معرفية حقيقية.
بالنسبة لنا كفلسطينيين، هذه الظاهرة أخطر بكثير، الحرب ليست عسكرية فقط، بل حرب رواية وسردية، فعندما يُفسح المجال لمحتوى هزيل أو غير موثق ليمثل فلسطين، فإننا نخسر جولة في المعركة الأهم: معركة الوعي. المطلوب ليس تكميم الأفواه، بل رفع مستوى الكلمة، وضمان أن يكون من يتصدر المشهد مؤهلاً، صادقاً، وملتزماً بحقيقة قضيتنا.
لسنا بحاجة لمزيد من الأصوات العالية، بل لأصوات تعرف ماذا تقول. المطلوب من الحكومات والمؤسسات الإعلامية والثقافية في عالمنا العربي أن تتعامل مع المشهد بجدية: أن تدقق فيما يُطرح من مواد ومحتوى، لا لمصادرته، بل لضمان ألا تتحول ساحة الإعلام إلى بازار للوهم والزيف.
كما أن دور القارئ والمتابع لا يقل أهمية: لا تكتفِ بالمنشور السريع، واطلب الدليل، وابحث عن العمق.
"وفي الختام نقول: إنّ زمن الضجيج الرقمي قد يغرينا بالتصفيق لكل من يعلو صوته، لكن أوطانًا تُسرق منها الحقيقة لا تحتاج صدىً أجوف، بل إلى كلمة واعية ورواية راسخة. فلنحرص أن تكون أقلامنا جسورًا إلى المعرفة لا قنوات للوهم، وأن نصنع من التكنولوجيا وسيلة للتمكين لا ستارًا يُخفي فراغنا. فالمستقبل لا يبنى بسطور متعجلة ولا بمنشورات عابرة، بل بفكرٍ يُمتحن، وكلمة تُراجع، ورواية تُصان كأرضٍ لا يجوز أن يفرّط بها."