السويداء: من حروب الجوار إلى حصار الباشا (2)
مقالات

السويداء: من حروب الجوار إلى حصار الباشا (2)

صدى نيوز - استولى إبراهيم باشا، قائد الحملة المصرية المعروفة (1831–1840)، على كل بلاد الشام، إلى حدٍّ كاد يُسقط فيه عاصمة الدولة العليّة، إسطنبول، لولا تدخّل جيوش الدول الأوروبية ومنعه من ذلك. بينما في الشام، اشتعلت في كل جبالها الثورة عليه وعلى حكمه منذ عام 1834، حين أثقل الباشا المصري فلاحي الشام بالضرائب التي رفضوها، ثم فرض عليهم الخدمة الإلزامية في جيشه، مما أشعل فتيل الثورة... بينما في جبل حوران (جبل الدروز)، تقول الرواية عن ثورتهم على الحكم المصري:

إن يحيى الحمدان، شيخ مشايخ الجبل، قد توجّه على رأس وفدٍ من الجبل، بطلبٍ من "حكمدار الشام" شريف باشا، لمقابلته ومفاوضته حول إلغاء تجنيد دروز الجبل، بعد أن أوعز إبراهيم باشا لحكمداره في الشام بضرورة تجنيدهم. ولمّا حاول الشيخ الحمدان إقناع الحكمدار شريف باشا بإعفاء الدروز من الخدمة العسكرية، تشدّد هذا الأخير، وألحّ على الحمدان تنفيذ أوامر إبراهيم باشا، ويُقال إنه لطم شيخ الجبل على وجهه وأمهله عشرة أيام كي يقدّم مجنّديه (1). لطمة أهانت شيخ الجبل أشعلت هذا الأخير كله، ليخوض دروز حوران أكبر مواجهة عرفوها ضد سلطة دمشق في القرن التاسع عشر.

بينما قرر إبراهيم باشا الحرب على دروز الجبل، وجد أن الطريقة الأمثل لقمع تمردهم تكمن في إثارة جوارهم عليهم: بدو حوران. ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي تستعين فيها سلطة دمشق بعشائر بدو حوران في مواجهة دروز الجبل. كان مردّ استعانة دمشق، إذا ما واجهت جبل الدروز، بجواره من البدو إلى ما عُرف في الجبل تاريخيًا بـ"حروب الجوار". تلك الحروب الأولى، التي دارت رحاها بين عشائر بدو حوران والدروز منذ توطّن هؤلاء الأخيرين الجبل في أواخر القرن السابع عشر، وقد تولدت عن غبنٍ اجتماعي لدى البدو الذين رأوا في قدوم الدروز وتوطنهم خِرَب وقرى الجبل إحلالًا على حسابهم. تقول الرواية عن أول مرة انتبه فيها بدو حوران لأول مجموعة درزية مهاجرة حطّت عام 1685 خيامها على أرض هضبة "الدة" جنوب قرية بريكة: "وسُرّ البدو بهذه المجموعة الغريبة، كما سُرّوا بلباسهم الغريب من الكشمير الأبيض والأصفر، ثم ابتعدوا (أي الدروز) إلى نجران...(2).

في نجران، اصطدم الدروز الوافدون ببدو "الفحيلي" وطردوهم منها، وفي سنة 1692م، اشتبك دروز الجبل مع بدو "ولد علي" وانتصروا عليهم، ووسّعوا منطقة استيطانهم على حسابهم حتى حدود منطقة "دامة" في الجبل. سلسلة من النزاع والانتزاع، ظلت مستمرة بين بدو الجبل ودروزه، على مدار القرنين السابع والثامن عشر، وحتى منتصف القرن التاسع عشر، حين انتزع شيخ "شقّا" الدرزي عباس القلعاني، ما بين 1858–1865، من البدو سبع قرى في منطقة الشمال الشرقي للجبل. وقد أشارت المؤرخة الفرنسية برجيت شيبلر، في كتابها انتفاضات جبل الدروز – جوران، بشكلٍ مفصل، إلى نزاعات انتزاع القرى والأراضي التي مارسها الدروز، في مسعىً منهم لدحر البدو من قرى الجبل إلى السهل، ودفعهم نحو أطراف البادية (3)، ما ولّد مظلومية بدوية تاريخية عن "حقهم المسلوب" في الجبل.

تظلّ مظلومية بدو حوران التاريخية بمثابة إطارٍ يفسّر، ليس فقط سردية الصراع الدرزي–البدوي على هوية جبل حوران، الذي كان أي خلاف بسيط بين فلاحٍ درزي وراعٍ بدوي كفيلًا بأن يتحوّل إلى مواجهة أشبه بحرب أهلية بين أهالي حوران على مدار التاريخ العثماني للجبل، بل يفسّر كذلك مساعي سلطات الحكم في دمشق، العثمانية وما بعدها، عند خلافها مع جبل السويداء، إلى الاستعانة بالجوار –الذي يُقصد به عادةً البدو– لإثارتهم على الدروز، وذلك ضمن سياسة إيقاظ أو تفعيل التحامل الأهلي بما يخدم أجندات السلطة، في غير مرحلة من تاريخ الجنوب السوري حتى أيامنا هذه.

وحتى بشار الأسد، فور وراثته كرسي الحكم عن أبيه حافظ، كان أول اختبار واجهه نظام حكمه في سوريا متصلًا بالسويداء، حين اندلعت فيها عام 2000، بين الحضر من الدروز والبدو من عشائر المدينة، أحداث دامية على خلفية اعتداء مواشٍ تعود لبدوي على محاصيل فلاح درزي في قرية الرحا، حيث قتل البدو درزيًا من أهلها، ليندلع نزاع امتد إلى السويداء المدينة، مسفرًا عن عشرات القتلى، كان أغلبهم من الدروز، الذين قُتل معظمهم بأيدي قوات نظام الأسد الابن. وقتها، أنزل دروز السويداء علم الدولة السورية من على مبنى المحافظة، واستبدلوه براية الحدود الدرزية الخمسة (4). كان دروز السويداء أول من اختبر من السوريين عنف الأسد الابن وعقليته القمعية، التي سيختبرها باقي السوريين لاحقًا.

ولا تعني هذه السردية التاريخية، أن علاقة دروز جبل حوران بالبدو فيه ظلّت محكومة بالتحامل والاحتراب الأهلي، إنما تطوّرت بينهما قواعد تضبط السلم الأهلي والعيش المشترك، وأواصر اجتماعية تداخلت فيما بينهما على مستوى التقاليد والأعراف، في المأكل والغناء، وطقوس الأفراح والمآتم. إذ تركت عادات وتقاليد حوران البدوية الأصيلة في الجبل أثرًا كبيرًا في الدروز الوافدين إليه منذ مطلع القرن الثامن عشر.

إن الحرب والجغرافيا - وللدقة: الحرب على الجغرافيا - كانت المُشكّل الأساسي لهوية دروز الجبل الجماعية، أكثر مما كان للمذهب الدرزي - التوحيدي دورٌ في تشكيلها، بالتأكيد. ومن هنا، اعتبر معظم الرحالة الأجانب الذين زاروا جبل حوران في القرن التاسع عشر، الدروز فيه بمثابة "عِرق حربي" (5). فكل أغاني حوران الجبل تمثل معجمًا عن حروب الدروز وعلاقتهم بمكانهم ومكانتهم الجغرافيين. وبالرغم من أنهم فلاحون اعتمدوا الفلاحة في معاشهم أساسًا، إلا أنهم حين أراد بعضهم امتهان الحِرف، لم يحترفوا إلا صناعة ملح البارود المستخرج من الجبل (6).

كما لم تعنِ حروب الدروز في الجبل، أنهم كانوا وحدة اجتماعية موحّدة ومتراصّة، لا اجتماعيًا ولا سياسيًا، لأنّ الصراعات القبلية فيما بينهم على مشيخة النفوذ في الجبل لم تخبُ في أيّ مرحلة من تاريخهم فيه، وقد جعلت هذه الصراعات منهم مجتمعًا قبليًا - عشائريًا، ولم تكن تُوحّدهم سوى المواجهات مع قوى خارج الجبل، خصوصًا مع سلطات الحكم المتعاقبة على دمشق، وهي التي كانت تحوّلهم إلى جماعة مذهبية، أي إلى "الدروز" بأل التعريف، كجماعة دينية.

كانت أوّل مواجهة خاضها دروز حوران ضد قوى من خارج الجبل وحوران عام 1810، عندما حاول الوهابيون القادمون من الحجاز عبر البادية نهب محاصيل الدروز في سهل حوران، لكنّهم تمكنوا من دحرهم وردّهم على أعقابهم.

غير أن الذي جعلهم محط أنظار الدولة العثمانية وولاتها في دمشق، كانت حربهم ضد قوات حكم إبراهيم باشا المصري (1831–1840)، التي أُشير إليها سابقًا، وخاضها الدروز في ظلّ مشيخة آل الحمدان على الجبل، رفضًا للضرائب وتسليم السلاح والتجنيد، ثم إهانة زعيمهم يحيى الحمدان. في مطلع عام 1838، اعتصم دروز الجبل بمنطقة اللجاة، وعُرفت حربهم ضد المصريين بهذا الاسم: "حرب اللجاة" (7). وذلك بعد أن حاول إبراهيم باشا إثارة جيرانهم عليهم، وتعبئة الفقهاء السوريين ضدّهم، بوصفهم جماعة مذهبية خارجة عن الدين، وقد أفتى بعض علماء دمشق فعلًا بشرعية قتالهم واستباحتهم. ومن هنا قول شاعر دروز الجبل، أبو علي الحناوي، في إحدى قصائده:

ولا أمّة إلا وصلت نار شرّها
علينا وتزعـمُ أنـنا كفّارُ...(8)

ما من مواجهة حدثت بين دروز السويداء وسلطة دمشق على خلفية سياسية، إلا واكتست مسوحًا مذهبية - طائفية. دامت مواجهة دروز السويداء لقوات إبراهيم باشا في اللجاة تسعة أشهر، لم يتوانَ فيها جيش الباشا عن تدمير وتسميم مناهل المياه الشهيرة هناك. وقد استنفر دروز وادي التيم وراشيا في لبنان، بقيادة شبلي آغا العربان، لنصرة دروز الجبل، ممّا اضطر إبراهيم باشا في النهاية إلى فك الحصار عن اللجاة والانسحاب. لا بل، تمكّن دروز السويداء في نهاية المطاف من فرض مطالبهم على السلطات المصرية في دمشق، منها إعفاؤهم من التجنيد الإجباري إلّا لمن أراده طوعًا، وحقّهم في الاحتفاظ بسلاحهم، ورفض توظيف رجالهم ودوابهم في أعمال السُخرة، ودفع الضرائب نقدًا لا عينيًا، وعدم بناء قلاع للمصريين في جبل حوران (9)، وغيرها من المطالب. وظلّت حتى أواخر القرن الماضي "معاميل" (أباريق قهوة) مذهّبة معروضة في أحد بيوت عائلة الحلبي في السويداء، يُقال إن عز الدين الحلبي قد غنمها من خيمة قائد الحملة المصرية إبراهيم باشا (10).

انتهى الحكم المصري في بلاد الشام بعد خروج المصريين سنة 1840، وعادت دمشق إلى الحضن العثماني. وقد تنبّه ولاتها إلى مسألة دروز السويداء لأوّل مرة، تمامًا كما تنبّه العثمانيون إلى العلويين في الساحل السوري على إثر الحملة المصرية، إذ شارك أبناء جبال الساحل في الثورة، أسوة بباقي ثوار المناطق الجبلية في بلاد الشام، ضد الحكم المصري. وقد شكّلت تجربة الحكم المصري والثورة عليه من قِبل مكونات المناطق الجبلية الشامية وعيًا سياسيًا واجتماعيًا بذاتها، تمامًا كما فتحت عيون العثمانيين على هذه المكونات ودورها خلال العقد الرابع من القرن التاسع عشر، بما فيهم دروز جبل حوران.

وهو ما مهّد بدوره لأول مواجهة على أرض جبل حوران بين دروزه وسلطات الدولة العثمانية في دمشق، وذلك بعد أن فرض الباب العالي سنة 1852 التجنيد الإجباري على جميع الرجال المسلمين، بمن فيهم الدروز، مما أدى إلى صدام دامٍ حينها بين القوات العثمانية والدروز من عصاة الخدمة العسكرية، وتحول الجبل إلى ملاذٍ لكل درزي رافض للتجنيد في جبل لبنان والجولان والجليل. وعلى إثر هذه المواجهة، أصبح يُطلق منذ سنة 1853 على جبل حوران رسميًا من قِبل السلطات العثمانية اسم "جبل الدروز"، ليتخذ الجبل رسميًا هويته المتّصلة بدروزه "العُصاة والأشقياء"، هكذا تشكّل دروز السويداء في مخيّلة كل من العثمانيين وأهالي دمشق معًا (11).

ولم تتغير نظرة أهالي دمشق، بمسلميها ومسيحييها، تجاه دروز الجبل بصفتهم "أشقياء" إلّا في وقت متأخر من أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وما بين خمسينيات القرن التاسع عشر وأواخره، كان جبل الدروز – حوران – قد شهد عدة تحولات اجتماعية وسياسية، أهمها "الحركة العاميّة"، كفصل آخر من فصول التمرّد والمواجهة والاحتجاج في السويداء.

 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.