
هل انحصر الأمل في شعوب الغرب؟
هل انحصر الأمل، كل الأمل، في التأثير على إسرائيل لوقف إجرامها، في شعوب الغرب وليس في شعوب الوطن العربي؟ هل يعني غياب جماهير الوطن العربي، بما فيها الشعب الفلسطيني، عن الشارع، واكتفاؤها بالاحتفاء بما يجري من انتفاضات شعبية مستمرة في دول الغرب، تسليمًا بالعجز، وبأنه لا إمكانية للنهوض مجددًا؟ إن هذا السكون وغياب الفاعلية أمر أدهش وحيّر، ولا يزال، علماء السياسة وعلم النفس الاجتماعي، وكثيرًا من المراقبين، كما يزرع الإحباط والحسرة في نفوس الناس أنفسهم، بعد مرور تسعة عشر شهرًا على المقتلة.
إنها لمفارقة أن تعوّل القوى والشعوب العربية، بما فيها الشعب الفلسطيني، على الشعوب الغربية التي تحكمها أنظمة داعمة للإبادة، في التأثير على إسرائيل، تعويضًا عن دورها القومي، وكأنها فقدت الثقة بقدراتها في الوقوف بوجه أنظمتها العربية التي ترتبط بعلاقات اقتصادية وسياسية عميقة مع القوى الغربية، وفي مقدمتها الإمبراطورية الأميركية.
ويغرينا السؤال التالي: هل النهضة الشعبية المتجددة العارمة، في بلدان الغرب، بعد دخول مخطّط الإبادة إلى مرحلة همجية جديدة، والتي أجبرت الحكومات الأوروبية على رفع منسوب غضبها، أو التظاهر بالغضب والتلويح بفرض عقوبات، بعد إصرار إسرائيل على مواصلة تجويع البشر في غزة وقتلهم في الوقت ذاته — هل هذه النهضة ستُكرّس ركون الجماهير العربية ومواصلة التعويل على الخارج، أم أنّها ستشكّل حافزًا لنهوض شعبي عربي وفلسطيني، ومراجعة للذات؟ أليست الهبّة الجديدة في الغرب فرصة أخرى لتحطيم جدار الخوف والعجز؟ لا أحد يستطيع التكهّن بالجواب.
يمكن إيجاز أسباب مهمة — وبعضها وجيه — وراء هذا السكون وغياب الفاعلية السياسية والشعبية، التي وقف عندها العديد من المحللين، في تضافر وتلاقي عوامل القمع المفرط، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأنظمة العربية. إنها تتمثل في كون معظم هذه الأنظمة قد التقت حول مناهضة فكرة المقاومة ضد القهر والإبادة، بعد أن سلّمت بوجود دولة الأبرتهايد، وتطبيع العلاقات معها رغم وحشيتها، دون حتى أي مقابل، والتكيّف مع النظام النيوليبرالي العالمي، والتخلّي عن قضية فلسطين كقضية عربية تحررية، واعتبارها معضلة مزعجة. ومع مرور الوقت، نشأ تقاطع مصالح طبقية ومنافع متبادلة بين هذه الأطراف.
ويُضاف إلى ذلك معاداة هذه الأنظمة لحركة الإخوان المسلمين، وهي معاداة ازدادت بعد الثورات العربية. وبما أن حركة حماس تستمدّ خلفيتها من هذه الحركة، فإنّ هذه الأنظمة تصبح منطقيًّا معادية للمقاومة، لأن انتصار نموذج حماس المقاوم، وفق حسابات الأنظمة، يُعد تهديدًا مباشرًا لها. لقد تهرّبت الأنظمة العربية، كما إسرائيل نفسها، من السؤال: لماذا صعد الإسلام السياسي؟ ولماذا نشأت حركات جهادية، بعضها ضد الأنظمة العربية وليس ضد إسرائيل؟
والجواب هو أن الأنظمة العربية لم تقدّم نموذجًا ناجحًا، إذ فشلت في تحرير المواطن العربي من التبعية للخارج، ومن الفقر والتخلّف الاقتصادي والتعليمي والصناعي والتكنولوجي، وفشلت في توفير الحرية والكرامة له.
ليس هذا فحسب، بل تعاظم الاستبداد والقهر والفقر بعد سحق الثورات العربية، بصورة غير مسبوقة، في ظل تضافر قوى الداخل والخارج على قمعها أو تخريبها، وبمساعدة تيارات من الجهادية الإسلامية المتطرّفة. كما أخفقت هذه الأنظمة في تحرير الشعب الفلسطيني من نظام الاستعمار، بل تخلّت عنه، وبدل العمل على التحرير، أو حتى مقاطعة نظام الأبرتهايد، أقدمت على الاصطفاف إلى جانب المستعمر، والتواطؤ مع مخطّط الإبادة.
إن شرط فهم ما يجري في المنطقة العربية والشرق الأوسط، هو النظر في اندماج الإقليم بالاقتصاد العالمي، ودوره في تشكيل علاقات القوى الدولية. فقد تحوّلت المنطقة العربية منذ عقود — وليس دول الخليج فقط — إلى جزء تابع في بنية علاقات القوى الدولية التي تقودها أميركا، من خلال النفط والغاز، ومن خلال الغزو المباشر لدول أخرى.
وفي هذا السياق أيضًا، لا يمكن فهم السلوك الفلسطيني الرسمي دون موضعة فلسطين في السياق الإقليمي والعالمي. إن اتفاقية أوسلو وملحقاتها الاقتصادية أوجدت طبقة فلسطينية مرتبطة بصورة دونية بالبنية الاقتصادية الإقليمية، سواء الاحتلالية أو العربية، وتحديدًا الخليجية.
ما نعنيه أن حالة التواطؤ والتحالف ليست عابرة أو طارئة، بل هي بنيوية. وهو ما يفسّر عدم تراجع الأنظمة عن مواقفها، سواء المتخاذلة أو المتواطئة، بل المتحالفة مباشرة، مثل نظامَي الإمارات والمغرب، وأنظمة أخرى. وهذا ما يستدعي من النخب التقدمية والديمقراطية العربية مقاربةً جذريةً لمواجهة هذه البُنى، والعودة إلى ربط التحرر الداخلي بمواجهة علاقات التبعية للخارج، وهو ما يتطلّب إعادة تشكيل الوعي التحرري، ليكون دمجًا بين التحرر المحلي والعالمي، كما يتطلّب إعادة بلورة مفاهيم جديدة، وأدوات سياسية حديثة مناسبة للمرحلة.
لقد ساهمت غزة، من خلال صمودها، ومن خلال الهمجية الصهيونية الفريدة، في توليد هذا الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية عدالة كونية، والانكشاف على حقيقة إسرائيل ككيان استئصالي متمرّد على القوانين الدولية ومنظومة الأخلاق الكونية.
والأهم أن شعوب العالم، التي تعاني من الاستغلال والضائقة الاقتصادية في بلادها، أعادت اكتشاف إسرائيل، بصفتها نظام فصل عنصري وكولونيالي إبادي، يلعب دورًا وظيفيًّا في إطار النظام العالمي بقيادة الإمبراطورية الأميركية، التي توفّر له الدعم المطلق في جرائمه، وبالتالي هو أيضًا عدوّ لمصالح هذه الشعوب وحرياتها ورفاهيتها وأمنها.
إن هذا الوعي الكوني المتزايد يصبّ في مصلحة الشعب الفلسطيني، ومصلحة الشعوب العربية وشعوب العالم، ويخدم قضية العدالة والمساواة في جميع أرجاء العالم. وهذا ما تدركه غالبية القوى العربية التقدمية، لكنها — للأسف — قاصرة ومقصّرة بصورة مريعة عن التحلي بالإرادة، وشحذ العقل، وابتكار مداخل ذكية لإنهاض الفعل السياسي والشعبي على امتداد الوطن العربي.
وهذه المهمة المصيرية مطلوبة أيضًا، بل قبل الجميع، من قوى التغيير الفلسطينية الشعبية، التي تبدأ بتوحيد صفوفها، والإسراع في بلورة جبهة وطنية شعبية عريضة فاعلة، خاصة وأنّنا ربما أمام بداية "تسونامي" في الساحة الأوروبية والأميركية ضد الإبادة والإجرام الممارَس ضد أهل غزة وشعب فلسطين.