
الأقنعة المتعددة وقضيتنا الفلسطينية
يقال أحيانًا "فلان لا وجه له"، في إشارة إلى من تجرّد من الحياء، وانسلخ عن القيم، فبات وجهه بلا تعبير، بلا خجل. هذه العبارة تأخذ بعدًا مؤلمًا حين تُسقط على واقع القضية الفلسطينية اليوم، لا سيما في ظل استمرار العدوان على غزة، وانقسام الداخل، وازدواجية الخطاب العربي والدولي تجاهها. فـ"الوجه"، بوصفه مرآة للضمير، قد غاب، أو أُغرق تحت الركام، ليحل محله قناع، أو خوذة سوداء، أو حتى صمت خانق لا يقول شيئًا ولا يُشير إلى أحد.
ما أكثر الوجوه التي تغيب حين يطلب الفلسطيني إنصافًا أو عدالة. وجوه الساسة في القمم، ووجوه المفاوضين في المحافل، ووجوه المنظمات الدولية حين يُباد حيّ سكنيّ كامل ولا يُحرك لهم ساكن. أقنعة كثيرة تظهر، منها ما يبرّر الاحتلال باسم "الحق في الدفاع عن النفس"، ومنها ما يختبئ خلف اعتبارات "التوازن"، أو "الحياد"، وكأن الضحية والجلاد على مسافة واحدة من الأخلاق والقانون.
تتنوّع الأقنعة الآتية من ثقافات الشعوب وتُعرض كتحف فنية. غير أن القناع في فلسطين ليس للعرض، بل للضرورة. لم يعد الغطاء على الوجه مجرد حماية من الغاز أو الرماد، بل ضرورة وجودية أمام عالم يتجاهل ملامح الضحايا. فالطفل الذي يُنتشل من تحت الأنقاض بوجه مغطى بالغبار، يحمل قناعًا لا اختياريًا، بل قناعًا قسريًا فرضته وحشية الواقع. قناع يخفي البراءة، ويُعلن الغياب.
القضية الفلسطينية، التي من المفترض أن تكون مرآة صافية للحق والحرية، تحوّلت إلى ساحة مكتظة بالأقنعة: أقنعة النظام العربي، الذي يتظاهر بالدعم ويُطبّع في الخفاء؛ أقنعة الأنظمة التي تتحدث عن كرامة المواطن وهي تُقصيه عن القرار؛ وأقنعة النخبة المثقفة، التي خفضت صوتها وقللت من غضبها أمام المجازر.
إن التناقض بين الجوهر والمظهر، بين ما يُقال وما يُفعل، هو أحد أعمق أزمات الشخصية الجمعية الفلسطينية اليوم، ليس فقط في علاقتها بالاحتلال، بل في علاقتها مع ذاتها. فحين يتحدث البعض عن "الوحدة الوطنية"، وهم في الوقت نفسه يُديرون الانقسام كأداة سلطة، فإننا نعيش فعليًا داخل خزانة أقنعة لا تنتهي. وكلما حاول أحدهم أن يخرج بوجهه الصريح، يُقابل بالاتهام أو الإقصاء أو حتى التصفية.
وبينما الفرد الفلسطيني يُطالب بحقوقه، تجد من يخوّنه أو يشكّك في نواياه، وكأن الدفاع عن الكرامة يحتاج إلى قناع معين، أو خطاب مصمم حسب مزاج الفصيل أو الممول. في خضمّ كل ذلك، يغيب "الوجه الحقيقي" لفلسطين، ذاك الذي يُعبر عن شعب يعيش في مخيمات منذ أكثر من سبعين عامًا، شعب لا يزال يُقتل في وضح النهار، ويُجرَّم حين يبكي أطفاله أمام الكاميرات.
إن غياب "الوجه" لا يخص فقط القامع والمحتل، بل بات يشملنا نحن أيضًا، حين نمارس الرقابة الذاتية خوفًا أو حسابًا، أو حين نلجأ للغة رمادية، ونلبس القناع الملائم للمنبر الذي نقف عليه. وهكذا، نتعدد في وجوهنا، نتماهى مع محيطنا، حتى نكاد نفقد جوهرنا.
لكن رغم كل ذلك، هناك وجوه لم تُغطَّ بعد، وجوه الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن عند بوابات السجون، وجوه المُسعفين تحت القصف، وجوه المعلمين الذين يُدرّسون في الخيام، وجوه الأطفال الذين يرسمون الشمس على الجدران المحطمة. هذه الوجوه، وإن أُرهقت، لا تزال صادقة، تقول لنا ما لم يقله الساسة والخطباء والمفاوضون.
في النهاية، ربما نحتاج اليوم، كفلسطينيين، إلى أن ننزع أقنعتنا أولاً، ونعترف بتناقضاتنا، ونكشف عن وجوهنا المرهقة، علّنا نستعيد بعضًا من صدقنا، وبعضًا من جوهرنا المفقود. فالقضية، بكل ما فيها، لا تحتمل المزيد من الوجوه الزائفة... ولا مزيد من الصمت المغلّف بالنفاق.

المخيمات درع الشرعية ووحدة الوطن

زيارة ترامب ... ومقياس الفلسطينيين للنجاح والفشل

الخليجيون يدفعون لترامب ثمن حمايتهم

خوارج القرن العشرين

مقال بذيء عن البذيئين

في القمة الخليجية الأمريكية الكل ربح إلا الفلسطينيين

من النكبة إلى الذكاء الاصطناعي: أدوات جديدة لحماية روايتنا الفلسطينية
