يخاصمون الحكمة لا الحكومة!
مقالات

يخاصمون الحكمة لا الحكومة!

ليس ثمة ما هو أكثر سمواً، ولا أعظم نبلاً، وأرفع مكانةً، وأجل كرامةً؛ من أن تكون معلماً، تصوغ الوعي، وتنسج الوجدان، وتُعمق مشاعر الانتماء للوطن والقضية، وتُرسخ قيم الإيمان والعلم والتعلم والفضيلة في نفوس النشء؛ الذين أودعهم الله بين يديك لتكون لهم معلماً، متأسياً بسيد الخلق محمد، صلوات الله وسلامه عليه، الذي بعثه الله مبشراً ونذيراً وسراجاً منيراً، وقال عليه السلام: "إنما بعثني الله معلماً، ولم يبعثني معنفاً".

 وليس ثمة ما هو أكثر ألماً، ولا أشد حزناً، من أن نرى أبناءنا يجيئون من مدارسهم كما يروحون، بعد أن أُوصدت أبواب العلم والتعليم في وجوههم، وغاب رسل العلم، وبناة المعرفة، عن أداء ما شرفهم الله به، فأُغلقت المدارس، وظلت الكراريس والأقلام أسيرة الحقائب المقفلة منذ أكثر من ستين يوماً، هي ستون ألماً تداعى لها الوطن بالسهر والحمى بعد أن فرت الحكمة من قادة الحراك الغامض، الذين يفاوضون بالبيانات عِوض الجلوس على طاولات الحوار في زمنٍ لم يبق فيه بأيدينا سلاحٌ سوى سلاح العلم في مواجهة من يعتنقون عقيدة الحرق والمحو والإبادة الجماعية وانتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية ومحاولة فرض سياسات التجهيل التي تهدم بيوت العز والكرم، وفي زمن نحن أحوج ما نكون فيه لحصص العلم، ودروس المعرفة التي تقيل أبناءنا من عثراتهم، وتنير عقولهم، وتضيء دروبهم، وتعمق الإيمان في قلوبهم بحتمية انتصارنا على أعدائنا الذين يتربصون بنا، ويفركون أيديهم فرحاً لعجزنا، وتعثرنا، وتأخرنا عن إصلاح ما شجر بيننا، فيما ترتفع سحب الدخان التي تسد الآفاق أمام أبصارنا، حتى تكاد تحجب الرؤية عن ملامسة آمالنا وأحلامنا.

 أتشرف بأنني بدأت حياتي المهنية معلماً، فمارست مهنة التعليم من المدرسة حتى الجامعة، وشاركت في أكثر من نزاعٍ نقابيٍ، كنا نمارس فيه الكرَ والفر، والشدَ والرخي، نحاور ونُناور، ولا نقول لا؛ بل نقول: نعم ولكن.. نحرص على إبقاء أبواب الحوار مواربة لتنفذ منها أي فرصة سانحة تُقربنا من تحقيق بعضٍ من مطالبنا، بينما لم تكن تغيب عن وعينا مصلحة أبنائنا، وكذلك حرصنا على تقصير أمد الأزمة مع محاورينا، الذين لم يكونوا أقل حرصاً منا؛ وكنا لا نتمترس عند المستحيل، حتى لا نخسر الممكن.

لقد كان العمل النقابي، ولا يزال، رديفاً للعمل الوطني، ومعادلاً موضوعياً له، وكان بمثابة الكتف التي يتكئ عليها الخطاب السياسي طيلة حقب النضال المتواصلة منذ خمسة وسبعين عاماً، وظل هذا العمل محكوماً بقيمٍ وطنيةٍ مكتوبةٍ وعرفية، بأن لا تحيد بوصلته، ولا يطيش سهمه، ولا يتيه دربه؛ وهو يمارس حقه في النضال المطلبي المشروع لتحسين ظروف منتسبيه من العمال والمعلمين، والأطباء، والمهندسين، والموظفين، وجميع قطاعات العاملين، التي وفرت لهم القوانين الحق في ممارسة نضالهم لتحقيق مطالبهم، وقد ظلت النقابات وفيةً لتلك القيم، فسرعان ما استجابت نقابات الأطباء والمهندسين والمهن الصحية لما عُرض عليها من مقاربات نالت فيها بعضاً من حقوقها زيادةً أو نُقصاناً بدفعات عاجلة وأخرى آجلة، باستثناء المعلمين الأكارم الذين خاصم حِراكهم الحكمة بعد أن باتوا أسرى لبيانات مجهولة الهوية تدعو للعدمية المطلبية، ولا تستجيب لكل دعوات الحوار، وظل الخطاب الحاد الصادر من وراء حجاب دون إعراب؛ ما فاقم الأزمة وأطال عمرها وقصّر من أعمار العلم والمعرفة لدى أبنائنا.

فهل من الحكمة الرد بالرفض على جميع المبادرات التي شكلت ضمانةً لحقوق المعلمين وكرامتهم؟

وأين الحكمة في إبقاء المشاورات والمداولات أسيرة "التشات" والتفاوض بالبيانات على وسائل التواصل عوض الجلوس والتفاوض على طاولات الحوار؟

وأين الحكمة من التعامل "بلا عواطف" كما جاء في أحد البيانات بينما تحكمنا قيم الود والرحمة والقلب السليم من كل هوى يناقض الإخلاص أو شهوة تعارض أمر الله الذي دعا نبيه الذي اصطفاه إلى القراءة في أول آية نزلت من الذكر الحكيم "اقرأ"، وجعل سبحانه فضل العلم مقدماً على الجهاد في سبيل الله، والكثير من الآيات التي تعلي من مكانة العلم والمتعلمين.

فارق كبيرٌ بين أن تُضرب في مصنعٍ أو منشأة، وبين أن تُضرب في مدرسةٍ أو جامعة؛ ففي الأولى تتوقف عجلة الإنتاج، بيد أنها سرعان ما تعوض الخسارة بمضاعفة الدوران، أما في الثانية فتتوقف عجلة الوعي، ويتعمق الجهل، وما تم فقده يصعب تعويضه.

إن النضال النقابيَ لا يكون إنجازه بالضربة القاضية، بل هو عملٌ تراكميٌ متواصل، فما لم يتحقق في الجولة الأولى يمكن تحقيقه في جولات أخرى، مع الأخذ بالاعتبار عدم ارتهان العملية التعليمية ومصير الطلبة بتلبية مطالب يحتاج تحقيقها وإنضاجها إلى وقت قد يتجاوز الفصل الدراسي.

ولعل السؤال الأهم الذي ينهض من بين تداعيات هذه الأزمة هو من سيعوض أبناءنا الطلبة عما خسروه من فاقد تعليمي، عندما ينال المعلمون الكرام عاجلاً أم آجلاً كامل حقوقهم المطلبية؟

لقد استجابت الحكومة إلى معظم المطالب التي تقدم بها المعلمون، وفي مقدمتها إضافة نسبة الـ15 بالمئة على قسيمة الراتب، وصرف دفعة عاجلة منها براتب شهر آذار، ويرصد الباقي إلى حين توفر الأموال مع وعد بإتمام صرفها قبل نهاية العام، وتم صرف راتب بنسبة 100 بالمئة وفق ذات النسب والآليات التي تم الاتفاق عليها مع جميع النقابات، أما المطلبان المتعلقان بمهننة التعليم ودمقرطة الاتحاد فقد بدأت إجراءات إنجازهما بعرض الأول على مجلس الوزراء بالقراءة الثالثة على أن يصار إلى تطبيقه مطلع العام المقبل، بينما بدأت الخطوات العملية لتحقيق المطلب الثاني بإجراء التعديلات الواجبة على نظام الاتحاد لضمان ممارسة جميع المعلمين لحقهم في اختيار ممثليهم فيه، وفيما يتعلق بالمطلب الأخير حول العقوبات فقد أعلن أمين سر حركة فتح جبريل الرجوب في مؤتمره الصحفي قبل أيام إلغاء جميع العقوبات، بينما شرعت وزارة المالية بإجراءات إعادة الخصومات إلى جميع المعلمين الذين التحقوا بمدارسهم، ولم يتعرض أي منهم لعقوبة الخصم من راتب شهر آذار، وأضيفت نسبة ال 5 بالمئة كدفعة عاجلة في خطوة تعبر عن تقدير الحكومة لجميع المعلمين الذين عادوا أمس إلى مدارسهم، محمولين على وعي كبير بمسؤوليتهم الوطنية تجاه أبنائهم لإنقاذهم من براثن الجهل والفشل.

وسط ما يعانيه الوطن من إعسار مالي، وإعصار سياسي، قدمت الحكومة مقاربات مقبولة لجميع النقابات شكلت فرصة لفك الاستعصاء المطلبي وفتح مغاليق الأزمات قبل استطالتها وارتفاع أكلافها، فبادرت النقابات مشكورة إلى شرائِها وبيعها لمنتسبيها، إلا اتحاد المعلمين الذي نشأ بينه وبين منتسبيه صدعٌ كبير كان سبباً في إطالة أمد النزاع واستطالته، ما تسبب بخسارةٍ فادحةٍ يصعب تعويضها، حتى باتت السنة الدراسية بأكملها "بين قوسين".

ولعل الدرسَ المستفاد الذي ينهض من بين تضاعيف الأيام الصعبة التي كابدها أبناؤنا الطلبة وأولياء أمورهم، والتي نسأل الله أن تكون خلفنا، هو أن النقابات القوية ليست خصماً للحكومات؛ بل داعمٌ وسندٌ وقوة لها في مواجهة التحديات الخارجية والنزاعات المطلبية الداخلية، وأن النقابات الضعيفة هي عبء على الوطن ولا بد من تقويتها بدمقرطتها.

ولأن الحوار هو صمام الأمان لحل الأزمات، وفك الاستعصاءات، فإن الحكومة لم تغلق أبواب الحوار مع المعلمين، بل ذهبت إليهم خلال اعتصامهم الأخير أمام مجلس الوزراء، ووجهت لهم الدعوة لاختيار ممثلين عنهم للتفاوض حول مطالبهم، بيد أنهم اعتذروا عن تلبية الدعوة، وبقي التواصل مستمرا مع جميع مؤسسات المجتمع المدني، لجهة جسر الفجوات، وتجاوز العقبات التي تتزاحم أمامنا من دون انقطاع.

هذه دعوة من معلمٍ متعلمٍ إلى معلمينا الكرام ومعلماتنا الكريمات أن نقبل بما قبلت به جميع النقابات؛ لنعيد لأبنائنا البهجة المفقودة، وصوت الجرس الصباحي، والنشيد الوطني؛ الذي غاب طويلاً عن أسماعهم، ليظل المعلمون كما عرفناهم رُسل علمٍ، وبناة عقولٍ، وصناع أملٍ؛ هو المجد الباقي لهم.. فثمة عملان عظيمان للمرء لا ينقطعان؛ علمٌ ينفع وذكرٌ يرفع؛ فعندما يقع أبناؤنا في براثن الجهل، سيكون أي ربح مهما غلا سعره بطعم الخسارة، وأي فوز مهما علت قيمته بطعم الهزيمة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.