هل سيُنقِذ نتنياهو ما لا يُمكن إنقاذه؟
مقالات

هل سيُنقِذ نتنياهو ما لا يُمكن إنقاذه؟

لعبة المراوغة والابتزاز على أشدُّها في إسرائيل.
«الصهيونية الدينية» «تتدارس» كيف لها أن «تُقدّم» لنتنياهو كل ما يمكن تقديمه دون «المسّ» بدورها القادم الذي تراه كبيراً وحاسماً في المصير الإسرائيلي كلّه، سواءً تعلّق الأمر بالوزارات والمناصب أو تعلّق بالشروط «السياسية» التي «يجب» على نتنياهو «الالتزام» بها.
وبالمقابل، فإنّ نتنياهو لديه من الأهداف ما لا يُمكن التنازل عنها، أو المساومة بشأنها تحت أيّ ظرفٍ من الظروف.
أوّل هذه الأهداف وأهمّها على الإطلاق هو إغلاق ملفّ محاكمته، دون تحقيق هذا الهدف لن يوافق نتنياهو على أيّ شيء، بل هو مستعدّ ومنذ الآن للذهاب إلى انتخابات جديدة على أن تبقى مسألة المحاكمة مُعلّقة، ودون حلّ «جذري» لها.
وثاني أهداف نتنياهو هو المحافظة على استقرار الحكومة لفترة كافية بكل ما يتطلّب ذلك من «التزامات» صارمة بالاتفاق الذي ينوي إبرامه ليس فقط مع «الصهيونية الدينية»، وإنما مع باقي أطراف الائتلاف الذي سيشكّله بما في ذلك الاتفاق مع أقطاب «الليكود» نفسه، وبما في ذلك الوزارات والمناصب التي ستناط بهؤلاء الأقطاب.
وثالث أهدافه تحويل «الهجوم الاستيطاني» إلى الميدان الأوّل لسياسات الحكومة القادمة، والإقدام على «استعراضات» كبيرة لضمان سيطرته السياسية الشاملة على كل أطراف الائتلاف الذي يشكل الاستيطان لها القاسم المشترك الأعظم.
وهنا لن يقتصر الأمر على «تشريع» البؤر الاستيطانية، وإنما سيتم ــ على الأغلب ــ اتخاذ خطوات استيطانية وتهويدية غير مسبوقة في القدس، بما في ذلك تلك التي تتعلق بالمسجد الأقصى، وكذلك الكنائس الكبيرة في المدينة، إضافةً إلى «استعراضات» جديدة في الخليل «وقبر يوسف»، وأماكن جديدة كثيرة في كلّ مكان من الضفة.
كلّ «التفاصيل» الأخرى عديمة الأهميّة، والمفاعل النووي الإيراني مسألة هامشية لنتنياهو ولكل أطراف الائتلاف الحاكم، واتفاق ترسيم الحدود مع لبنان ليس أكثر من أكذوبة طرحها نتنياهو من باب «تسلية» الجمهور بها، والخوف من «العزلة» الدولية ليس موجوداً في قاموس هذا الائتلاف. الاستيطان وعمليات التهويد الجارفة هو عنوان هذه الحكومة، وهو موضوعها، وليس لها من أهداف ومهمات حقيقية قبل أو بعد هذه الأهداف.
ولكن لماذا الاستيطان والتهويد هو العنوان الأول لهذه الحكومة؟
السبب واضح، وقد بات معروفاً وعلنياً، ولم يعد مُضمَراً أو مُوارَباً أو غامضاً في أيّ جانبٍ منه.
جماعة هذه الحكومة هم الذين يؤمنون إيماناً راسخاً بـ»إسرائيل الكبرى»، وهم يعرفون أن «إسرائيل الكبرى» هي دولة واحدة، وهم يعرفون جيداً أن دولة واحدة تعني أن «إسرائيل» هذه، أي الكبرى ستحكم وستتحكّم بأكثر من سبعة ملايين فلسطيني، بالحديد والنار إذا «لزم الأمر»، وهم على قناعةٍ تامّة أن ما نسمّيه نحن نظام الفصل العنصري هو بالنسبة لهم الأسلوب الممكن والضروري والوحيد لكي تبقى إسرائيل «كبرى»، ولكي يتم إعطاء كلّ ما يمكن إعطاؤه لليهود في هذه «الكبرى» من حقوقٍ مطلقة، بصرف النظر عن كل ما يمكن أن يُقال عن ديمقراطية أو عدم ديمقراطية هذه الدولة.
من خلال هذه الحكومة (القادمة)، ومن خلال ائتلاف كهذا سيتم تشكيله، سيتم وضع كل شيء في خدمة هذا التصوّر، وفي سياق السياسات التي ستجسّد هذا التصوّر على الأرض.
لاحظوا مثلاً بعض التسريبات عن مواقف «الصهيونية الدينية»: «يمكن لسموتريتش أن يقبل بوزارة المالية شريطة أن تكون موازنات الاستيطان من اختصاص وزارة المالية وليس من اختصاص وزارة «الدفاع».
أما إذا أُسنِدت له «الدفاع» فإن الوزارة في هذه الحالة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن «الإدارة المدنية» التي تتحكّم بأكثر من خمسة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع، وهو الذي يقرر تحويل البؤر الاستيطانية إلى بلديات، وهو الذي يقرر «دعم» البؤر الجديدة، وهو الذي يقرر «المصادرات» المطلوبة، والأرض التي سيتم الاستيلاء عليها، وهو الذي يقرر الطرق التي ستشقّ، وهو الذي يقرر محاصرة كل التجمعات الفلسطينية بالحواجز والأسلاك الشائكة، والبوّابات، وهو الذي يقرر متى يُقطع الماء، وتُقطع الكهرباء، وهو الذي سيقرر نوعية العقوبات الجماعية!
باختصار، فإن «الصهيونية الدينية» هي من سيقرر السياسة «الداخلية»، وفي القلب من هذه الاستيطان والتهويد والضمّ، وهي بالتالي من سيقرر السياسة الخارجية، لأن السياسة الخارجية ستكون مُحصّلة مُجمل السياسة الداخلية.
هذه المسألة ستنطبق على الداخل كما ستنطبق على الأراضي المحتلة، والفارق لن يكون مطلقاً في نوع السياسة وإنما فقط سيكون بدرجتها، وكل الأوهام حول هذه المسألة بالذات ستتكشّف تباعاً.
بدأنا نلحظ في الأيام الأخيرة بعض «النخب» الإسرائيلية من أوساط مختلفة، أي من «اليمين» و»الوسط» و»اليسار» مَنْ يُنبّهُون من أخطار الانزلاق إلى هذا الواقع، وذلك لأن مثل هذا الانزلاق سيؤدي حتماً إلى سيطرة للدولة على كل شيء في إطار «إسرائيل الكبرى»، والتي ستؤدي ــ هذه السيطرة ــ لا محالة إلى وجود «ثنائية قومية» على أرض الواقع تتمثل في وجود مليون أو اكثر من مليون مستوطن في الضفة الغربية يتحكّمون بأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني، وحوالي 300.000 فلسطيني في القدس الشرقية، وأكثر من مليوني فلسطيني في «الداخل». ناهيكم طبعاً عن تحكُّم هذه الدولة «إسرائيل الكبرى» بأكثر من مليوني فلسطيني تحت الحصار في قطاع غزة.
هذه السيطرة حسب هذه «النخب» يجب تحت كل الظروف منعها وتجنّب الوقوع بها، لأن إن وقعت «الفاس في الراس» فلن تفلت «إسرائيل الكبرى» من «مصيدة» ــ والكلام لهذه «النخب» ــ «الدولة الواحدة الثنائية القومية».. حينها ــ والكلام ما زال لهم ــ سينهار المشروع الصهيوني من أساسه، أو سنكون أمام دولة أخرى، لا «نعرفها»، جديدة، عنصرية، مرفوضة ومنبوذة، وتهدّد الوجود اليهودي نفسه قبل أن تهدّد الوجود الفلسطيني.
ليس هذا فقط، وإنّما ــ وهذا هو الأخطر ــ قد يُصبح «الترانسفير» هو المدخل «الوحيد والمناسب» للتصدّي للمشكلة في حينه، ما يعني أن أزمة الوجود اليهودي ستكون قد دخلت في نطاق الحالة الانتحارية!
تحت وبسبب هذه المخاوف تناشد هذه «النخب» «الوسط» و»اليسار»، وبعض أطراف «اليمين» «الانضمام» إلى نتنياهو على وجه السرعة لإنقاذ «المشروع الصهيوني» من هذه الهاوية!
بصرف النظر عن بعض المبالغات التي ينطوي عليها مثل هذا الطرح إلّا أن جوهرها حقيقي ــ كما أرى ــ وهي تعكس ما ذهب الكثيرون إليه من أن أزمة المشروع الصهيوني باتت مكشوفة، ولم يعد أمام هذا المشروع من حلولٍ سوى الاختيار بين تراجع تاريخي ينسف جوهر هذا المشروع، أو الاستمرار في اللعبة حتى نهايتها، وهو خيار أقرب إلى الخيار الانتحاري منه إلى أيّ شيءٍ آخر.
فمن أين لنتنياهو أن ينقذ ما لا يُمكن إنقاذه؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.