ريحٌ من سوتشي تهبّ على دمشق وأنقرة
مقالات

ريحٌ من سوتشي تهبّ على دمشق وأنقرة

منذ أن تكسّرت أحلام السيد أردوغان في بسط سطوته على سورية، ودخول مسجدها الأموي غازياً، لا زائراً أو مصلياً، ومنذ أن انحسرت حدود أحلامه بـ»شريط حدودي»، يمنع عنه خطر قيام كيان كردي منفصل أو شبه مستقل.
جادل كاتب هذه السطور بأن أفضل حليف موضوعي لأردوغان في سورية هو الرئيس بشار الأسد نفسه، وأن مساحات اللقاء التي تقرّب الرجلين أوسع بكثير من قضايا الخلاف التي تباعد ما بينهما، لكن المشكلة الأكبر التي كان يتعين حلّها إنما تمثلت في انهيار جدران الثقة، وصعود كل منهما قمة شجرة عالية يصعب عليه الهبوط عنها بأمان.
كلا الرجلين لا يرغب بوجود كيان كردي انفصالي على أرضه وحدوده، كلاهما يريد العودة بكرد سورية إلى ما كانوا عليه قبل 2011، ولديهما مصلحة عميقة في ذلك. وكلا الرجلين لا يرغب بوجود قوات أميركية في شمال سورية الشرقي، يستقوي الكرد بها ويستظلون. وكلاهما لا يمانع التخلص من جيوش المرتزقة والميليشيات والمعارضات، سيما أن الحاجة لها انتفت، فهيئة تحرير الشام، وفصائل المعارضة السورية، اكتسبت أهميتها تركياً من إستراتيجية أنقرة للسيطرة على سورية، وبسقوط هذه الإستراتيجية تنتفي تلك الحاجة. ودمشق التي اختبرت تجربة التخلي عن حزب العمال الكردستاني من قبل، لا تمانع في التخلي عنه من بعد، سيما أن الحاجة إليه انتفت، كذلك كورقة ضغط وإزعاج للجانب التركي.
المصلحة الثانية لتركيا في سورية وشمالها على وجه الخصوص، تتمثل في إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم الأصلية أو المستحدثة، وهذه مهمة تستطيع تركيا أن تنجزها مع دمشق، دون التورط في بناء مدن الصفيح والطوب، أو ترسيم خرائط المناطق الأمنية.
سحر اللاجئين السوريين انقلب على الساحر التركي، وما كان ورقة قوة بيد أردوغان بات عبئاً عليه، والزمن لعب هنا لصالح الأسد، مع اقتراب ساعة الرمل من إفراغ حباتها الأخيرة، مؤذنةً بحلول استحقاق 2023 الرئاسي التركي. كان الرجلان بحاجة لوسيط يعرفهما جيداً، ولديه ما يكفي من السلالم وشبكات الأمان لتوفير هبوط سلس لكليهما عن الشجرة. لقد وجد الرجلان في الرئيس بوتين ضالتهما المنشودة، وسوتشي، ومن قبلها طهران، كانتا محطتين مهمتين على هذا الطريق.
وفي ضوء نتائجهما تكثفت الاتصالات الأمنية (وبعض السياسية)، والأفكار يجري تبادلها بأسرع مما كنا نظن، ولا نستبعد وقوع مفاجآت من العيار الثقيل على طريق دمشق - أنقرة في قادمات الأيام، رغم العوائق الكثيرة القائمة، ورغم «الحواجز الطيّارة» التي قد يزرعها الأميركيون عليه. الاتصالات الاستخبارية جارية وقد استؤنفت بعد انقطاع، وثمة اتصال سياسي رفيع جرى مؤخراً، عرفنا عنه في بلغراد، وإن كنّا لم نعرف أنه على مستوى وزيرَي خارجية البلدين، أوغلو والمقداد، والشائعة بصدد قرب إجراء اتصال هاتفي بين الأسد وأردوغان لم تعد أمراً خارج التوقع على أي حال.
لأردوغان مصلحة في تسريع خطى «التطبيع» مع سورية، والأمر مرتبط بالحسابات الأهم في حياة الرجل: حسابات صناديق الاقتراع. وللأسد مصلحة لا تقل عمقاً في إتمام المصالحة، إذ بجرّة قلم قد يُفقد جميع خصومه في الشمال قيمتهم الإستراتيجية، ويتلاشى دورهم كورقة ضغط وابتزاز بيد تركيا، وغيرها. وثمة اتفاق أضنة 1998 جاهزٌ لأن يكون أساساً لاستئناف العلاقات، بصيغته القديمة، أو بعد تعديله، والطرفان اختبرا «حسن الجوار»، وتذوّقا ثماره الحلوة لأكثر من عقد من الزمان، فما الذي سيمنع عودتهما إلى ذاك المسار، بعد عشرية الخراب والتخريب.
ثمة معوّق واحدٌ: واشنطن، وإذا ما كانت على استعداد لصرف النظر على هذا التطور، أو عرقلته بكل ما أوتيت من قوة؟
لولا أوكرانيا لقلنا: إن سورية ليست سوى تفصيل في حسابات واشنطن الشرق أوسطية، لكن ما بعد أوكرانيا ليس كما قبلها، فكيف ستتصرف واشنطن حيال الريح الجديدة التي هبّت من سوتشي على دمشق وأنقرة؟
سؤال برسم الأيام القادمة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.