من القهر إلى التحرر: مستقبل التعليم الفلسطيني في زمن الصمود والمعرفة .
مقالات

من القهر إلى التحرر: مستقبل التعليم الفلسطيني في زمن الصمود والمعرفة .

يمثّل التعليم في التجربة الفلسطينية مسارًا تاريخيًا متجذرًا في معركة الوجود، لا في معادلات التنمية فقط. فمنذ بدايات النكبة وحتى اليوم، لم يُنظر إلى التعليم بوصفه وسيلةً لتحسين الواقع فحسب، بل باعتباره مشروعًا للتحرر من الاستلاب والاستعمار. هذا الوعي جعل من المدرسة الفلسطينية - سواء داخل الوطن أو في المنافي - فضاءً لبناء الذات الوطنية، ورافعةً للكرامة الجماعية، وحلقةً وصل بين الأجيال في مواجهة النسيان والتهميش.

لقد أظهرت التجارب السابقة، في السجون والمخيمات ومناطق الحصار، أن التعليم في القهر ليس ردّ فعلٍ على الحرمان، بل بنية تفكيرٍ بديلة تصوغ مفهومًا جديدًا للنهضة. فحين تتعلّم الجماعة في ظروفٍ تُحرم فيها من الحرية، تصبح المعرفة فعلًا من أفعال المقاومة، ويصبح المعلم والمجتمع والطالب شركاء في صناعة الوعي. ومن هنا، يغدو مستقبل التعليم الفلسطيني مشروطًا بقدرته على التحول من “التعليم من أجل البقاء” إلى “التعليم من أجل التحرر”.

التعليم كفعل سيادي :

في ظلّ واقعٍ سياسي متقلب، يُصبح التعليم شكلًا من أشكال السيادة الوطنية غير المعلنة. فالمنهج الدراسي ليس وثيقة أكاديمية فحسب، بل هو بيان سياسي وثقافي يحدد كيف يرى الفلسطيني نفسه والعالم من حوله. ومن هنا، فإنّ تطوير التعليم الفلسطيني في المرحلة المقبلة يقتضي مراجعة فلسفية شاملة لموقعه بين التحرر والتنمية: هل نريد تعليمًا يُخرّج الأيدي العاملة، أم تعليمًا يصوغ العقول القادرة على مساءلة الواقع؟ إنّ الخيار الثاني وحده هو ما يضمن بقاء المشروع الوطني في أفقه الإنساني.

نحو نموذج تربوي تحرري :

إنّ إعادة بناء المنظومة التعليمية في فلسطين يجب أن تستند إلى ما أفرزته التجربة التاريخية من قيمٍ تربوية مقاومة: التعاون، والمرونة، والاستقلالية، والنقد. فالتعليم الذي وُلد في القهر أثبت أنه أكثر مرونة وقدرة على التكيّف من النماذج المؤسسية الصلبة. لذلك، يمكن تحويل هذه القيم إلى فلسفة تربوية مستدامة عبر دمجها في المناهج، وتبني سياساتٍ تربوية تشجع على التفكير النقدي، وتربط بين التعليم والعمل المجتمعي والمواطنة الفاعلة.

وفي هذا الإطار، تبرز أهمية الانتقال من التعليم الذي يُنظّم المعرفة إلى التعليم الذي يُنتجها. فالفلسطيني الذي علّم نفسه في الزنزانة أو الخيمة قادرٌ على أن يُسهم في إنتاج معرفةٍ عالمية عن “التربية في القسر”. وبهذا، يمكن للتجربة الفلسطينية أن تتحول من حالةٍ محلية إلى نموذجٍ عالميٍّ للتعليم المقاوم - تعليمٍ يرى في التفكير فعلًا سياسيًا، وفي الوعي شرطًا للتحرر.

التحديات وآفاق المستقبل:

رغم هذا الزخم القيمي، ما يزال التعليم الفلسطيني يواجه تحدياتٍ بنيوية كبرى: ضعف التمويل، تسييس المناهج، تراجع البنية التحتية، وضغوط العولمة التي تسعى لتفريغ التعليم من بعده الوطني. غير أنّ مواجهة هذه التحديات لا تتم بالهروب إلى الإصلاح الإداري، بل بتعميق البعد الفلسفي والإنساني في التربية. فالتعليم الفلسطيني بحاجة إلى رؤيةٍ فكرية تجعل من المعرفة أداةً لتحرير الإنسان لا لتقييده، ومن المدرسة فضاءً للوعي لا للحفظ.

إنّ مستقبل التعليم الفلسطيني لن يُقاس بعدد المدارس أو الشهادات، بل بمدى قدرته على إنتاج وعيٍ جماعيٍّ نقديٍّ يتجاوز حدود القهر. فالشعب الذي حوّل السجن إلى جامعة، والمخيم إلى مدرسة، قادرٌ على تحويل كل معاناةٍ إلى مصدرٍ للمعرفة. إنّ الطريق من القهر إلى التحرر لا يمرّ عبر النصر العسكري أو السياسي وحده، بل عبر بناء عقلٍ تربويٍّ يؤمن بأنّ التفكير هو الفعل الأول للمقاومة.

خاتمة

حين نعيد قراءة التجربة الفلسطينية من منظورٍ تربوي، ندرك أن التعليم فيها لم يكن يومًا مؤسسة، بل حالة وعيٍ جماعية تشكّلت في وجه القهر، وتطورت إلى فلسفة تحرر. إنها تجربة تقول للعالم إنّ الحرية تبدأ من العقل، وإنّ المدرسة الأولى للإنسان هي قدرته على التفكير رغم القيود. لذلك، فإنّ مستقبل التعليم الفلسطيني ليس وعدًا بالمباني، بل وعدٌ بالفكر - فكرٍ يواصل صياغة المعنى في زمنٍ يسوده الضياع، ويثبت أن الأمم التي تتعلم في العتمة، لا تنطفئ أبدًا.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.