فلسطين بين معنى الجدار وبنية الانتداب... قراءة في لحظة الانكشاف
مقالات

فلسطين بين معنى الجدار وبنية الانتداب... قراءة في لحظة الانكشاف

قبل أعوام قليلة، قارب الأسير المحرّر ناصر أبو سرور فكرة الجدار، فجعل منه حكاية شعب وقع فريسة إيمانه المطلق بثلاثيّة "وطن وثائر وشعار"، إلا أنّ ناصر لم يسعَ إلى استعادة ما كان قبل الأسر، بل إلى تفكيك مفاهيم القضيّة ذاتها، عبر إعادة ترتيب الوجوه والأحداث، وتعرّيتها من الخطاب المأزوم الذي يرتدي في كلّ مرحلة قميص أسطورة جديدة أو متجدّدة، متّكئًا على لغة مفرد لا يقبل التعدّد.

ففي "حكاية جدار"، يستعيد أبو سرور درسًا قديمًا: "لا تولّد أسطورة جديدة إلّا إذا ماتت قديمة، أو قُتلت وسقطت كذباتها عن كلّ الجدران".

من هذه الزاوية يمكننا أن ننظر إلى فلسطين اليوم خارج ثنائيّة العجز المركّب والبطولة اللفظيّة؛ فالسؤال لم يعد: كيف نزيل الجدار؟ بل: كيف نُعيد تعريفه؟ وما الشروط السياسيّة والمؤسسيّة والمعرفيّة التي تسمح بتحويله من قدر مفروض إلى معبرٍ ممكن؟ إنّ تجربة الأسير ليست سرديّة فرديّة بقدر ما هي استعارة سياسيّة كبرى؛ فكلّ مشروع تحرّري لا يعيد تعريف أدواته سيظلّ يدور حول الجدار دون أن يراه.

ومن هذا المدخل، إن شئنا العودة إلى الحديث عن القرار الأمميّ الفريد من نوعه بشأن الحالة الفلسطينيّة، علينا الإقرار أوّلًا بأنّ مثل هذا التصوّر يربط ما بين الجدار كمعنى، والقرار كبنية، وهو ما ينقل مفهوم الجدار بوصفه استعارة تؤكّد سياسات الهيمنة، إلى حال الجدار باعتباره مرآة كاشفة لتناقضات النظام الدوليّ القائم في الوقت الراهن.

فالقرار لم يعد مجرّد بندٍ إجرائيّ في سجلّ المنظّمة الدوليّة، بل أصبح لحظة تحوّل عميق في بنية الأمم المتّحدة نفسها، وهي المؤسّسة التي وُلدت كبديل لعصبة الأمم لإنهاء فكرة الانتداب، لتعود، في الحالة الفلسطينيّة تحديدًا، لإنتاج صيغ انتدابيّة هجينة تُبقي على المبدأ وتغيّر اللغة، وتلتفّ على الأسس التي قامت عليها.

فما جرى صياغته في هذا القرار لا يمكن فهمه كتدويل حرفيّ، ولا كآليّة أمنيّة خالصة، بل كعلامة فارقة على دخول القضيّة الفلسطينيّة طورًا جديدًا تتجاوز فيه مفردات الوصاية، معنى حقّ تقرير المصير، والرقابة الدوليّة، ومفاهيم السيادة؛ ليتقاطع فيه مفهوم ما بعد الاستعمار مع ما قبل الدولة، وهو بهذا المعنى طورٌ يختبر حدود النظام الدوليّ وحدود المخيال الفلسطينيّ في الوقت نفسه.

ولكي يُفهم ويُواجَه الانتداب غير المباشر، يحتاج إلى تفكيك بنيته القانونيّة والسياسيّة والمعرفيّة: من يديره؟ وما الذي يفرضه علينا من إعادة تعريف للذات، وللمؤسّسة، وللموقع السياسيّ في معادلة القوى؟ وهذه قواعد لا تختلف كثيرًا عن درس "حكاية جدار": فالعقبات لا تزول بالصراخ عليها، بل بفهم من شيّدها، ولماذا شيّدها، وكيف يمكن تحويل شروط القيد نفسها إلى فرص لاستعادة الفعل. عندها فقط تتحوّل العقبة، في السجن كما في السياسة، إلى خريطة لعبور جديد.

ومن هنا تتولّد الأسئلة التي ستظلّ تشكّل محور النقاش في الشهور المقبلة: هل يمكن للنظام الدوليّ بعد 1945 أن يعيد إنتاج آليّات انتدابيّة جديدة دون إعلان ذلك؟ وما طبيعة النموذج الهجين الذي يوفّق بين الوصاية والتدويل؟ وأين يقف الفاعل الفلسطينيّ داخل هذه الرقعة الجديدة؟ وما حجم اليد الأميركيّة في هندسة الوعي؟ وهل يمتدّ هذا الانتداب المقنّع إلى الضفة الغربيّة تحت عنوان "تهيئة شروط الدولة"؟ ثم: ما الذي يمكن فعله الآن، وما الذي يظلّ رهنًا بتحوّلات أكبر في ميزان القوى؟

بهذا المعنى، لا يكمن جوهر اللحظة الراهنة في سؤال: من يفرض الوصاية؟ بل في سؤال: أيّ ذات سياسيّة فلسطينيّة يمكنها أن تواجه هذا النمط الجديد من الانتداب، أو أن تعيد صياغته بما يحفظ مشروعًا وطنيًّا قابلًا للحياة؟ وما المشروع الوطنيّ القادر على تحويل هذا التحدّي، مهما اشتدّ، إلى فرصة لإعادة بناء معنى السيادة، لا مجرد التكيّف مع واقع مفروض؟

هذه الأسئلة، بما تفتحه من مسارات، ستكون مدخَلًا لسلسلة مقالات لاحقة تذهب نحو تفكيك أعمق للسيناريوهات الممكنة في ظلّ هذا الوجود الفلسطينيّ المعلّق بين معنى الجدار وبنية الانتداب؛ سلسلة تحاول قراءة لحظة الانكشاف المزدوج: انكشاف النظام الدوليّ، وانكشاف الحقل السياسيّ الفلسطينيّ على حدّ سواء.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.