
عن «آخر السيوف»
كلما مرَّ الثامن عشر من سبتمبر من كل عام فُتِحت أمامي أبواب الذاكرة، لأجلس على عتبة القلب، أتأمّل رحلة عمر بدأتْ يوم اختارني لأن أكون رفيقة رجل لم يكن يشبه الرجال، بقدر ما كان يشبه الجبال.. عنفواناً وطولاً وظلاً..
إنّ الزواج - في تجارب البشر- قد يكون عقْداً يُوثَّق في المحاكم، أو بيتاً يشترك فيه اثنان، لكنه في جوهره الحقيقي أوسع من ذلك بكثير.
الزواج رسالة، ومسؤولية، وعهد يتجاوز حدود العاطفة إلى بناءٍ إنسانيٍّ مشترَكٍ، ينمو بالحب كما تنمو الأشجار بالماء، ويزدهر بالثقة كما يزدهر الوطن بالحرية.
ومع عبدالله المبارك، لم يكن الزواج مسكناً يضمُّنا فحسب، بل كان فضاءً رحباً نتقاسم فيه الرؤية، ونحمل فيه معاً هموم الكويت وأحلامها.
كان يعلّمني أن البيت ليس جدراناً تُغلق، وإنما نافذة مفتوحة على قضايا الناس.
وكان يذكّرني دائماً أن الكلمة -حين تُكتب بصدق- تصبح سيفاً مكمِّلاً لسيف الفارس، وكتاباً مفتوحاً في مدرسة الوطن.
لقد كتبتُ في رحيله «آخر السيوف»، لأنني رأيت فيه الفارس الأخير الذي ظلّ حتى لحظاته الأخيرة يحمل القِيم الكبرى: الرجولة، الشهامة، الوفاء، والغيرة على الوطن. ومازلت حتى اليوم أؤمن بأن التجارب الإنسانية الصادقة لا تنتهي بالموت، وإنما تتحوّل إلى إشعاع يضيء للآخرين طريقهم.
إنّ تجربتي معه علّمتني أن الوفاء الزوجي ليس وفاءً للإنسان وحده، بل هو وفاء لقيم مشترَكة، وذاكرة مشترَكة، وحُلم مشترَك.
حين يرحل الجسد يبقى المعنى، وحين ينطفئ الصوت يبقى الصدى، وحين تغيب الملامح يبقى الأثر.. وها أنا اليوم، في ذكرى زواجي من شريك العمر ورفيق الدرب وصديق الزمن الجميل، أكتب عنه لا كحكاية شخصية، بل كقيمة اجتماعية يجب أن نتأملها جميعاً؛ لنرى أن الوفاء هو الذي يحفظ للزواج معناه، ويحفظ للوطن مكانته في القلوب.
أكثر من 32 عاماً عشتها معه لحظة بلحظة يوم بيوم.. وخفقة قلب بخفقة قلب، ورغم الزمن الذي تتسارع فيه الوجوه وتتبدّل العلاقات، أجدُ نفسي أكثر إيماناً بفكرة أنّ الزواج الحقيقي لا يُقاس بعدد السنوات، بل بعمق الأثر الذي يتركه.
لقد ترك عبدالله، في حياتي ما جعلني أكثر ثقة بالقلم وبالعلم وبالسلام وبالعطاء، وبكل المعاني الإنسانية الكبرى، وأكثر إصراراً على أن المرأة حين تكون شريكة رجل نبيل، تصبح شريكة في صناعة التاريخ أيضاً.
الثامن عشر من سبتمبر، إذاً، ليس تاريخاً عابراً في دفتر الأيام، بل هو رمز لبداية رحلة نسجتُ فيها مع شريك حياتي حكاية حب ووفاء، لم تبقَ حبيسة البيت، بل خرجت لتصبح جزءاً من ذاكرة الكويت نفسها. فهناك زيجات تموت بانتهاء أعراسها، وهناك زيجات تبقى حيّة لأنها قامت على قيمٍ راسخة تشبه جذور النخيل، لا تهزّها الرياح، ولا تذبلها مواسم الجفاف.
أخذ بيدي وأطلقني إلى الدنيا.. من بيروت إلى القاهرة ثم لندن ثم حول العالم بكل الحياة والإصرار.. لأعود بشهادة كانت تعني له الكثير..
ولعل أجمل ما يمكن أن أهديه في هذه الذكرى، هو أن أذكّر الأجيال بأن الحبّ قيمة، وأن الوفاء مبدأ، وأن الزواج - إذا تأسس على الاثنين معاً - يصبح جسراً نحو الخلود.