حكومة الاحتلال وارتكاب المزيد من المذابح
مقالات

حكومة الاحتلال وارتكاب المزيد من المذابح

بعد أن تفتّقت "عبقرية" مجلس شورى جماعة منصور عباس عن قراره بإعطاء الائتلاف "فرصة" جديدة سيتأخر سقوط هذا الائتلاف قليلاً، وأغلب الظنّ أن هذه الجماعة لن تحظى بأيّ فرصة من أيّ نوعٍ كان للتكفير عن كل ما اقترفته أيديها بحق شعبنا، وبحق الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني.
الفرصة التي يقصدها مجلس شورى جماعة منصور عباس ليست من طبيعة الأشياء التي يمكن أن يستدل عليها، لأنها تدخل في نطاق الغامض والمجرّد، وهي أقرب إلى عالم الأحجيات منها إلى الفوازير، وعلينا أن نجهد كثيراً لنقترب ولو قليلاً من منطقة الجواب والتفسير والتبرير.
وكل ما يمكن أن يصل إليه أيّ إنسان عادي، عاقل، ومهما بلغت درجة التركيز الذهني لديه، ومهما "عَصَر" مخّه، ومهما امتلك من القدرات العقلية فإن أقصى ما يمكن أن يخرج به هو التخمين، وذلك لتعذّر الدخول إلى منطقة اليقين.
المهم أن هذه الجماعة الغريبة والعجيبة، تفكيراً وأطواراً وسلوكاً، ولاعتبارات "عملية" على ما يبدو، ونحن هنا نحتاج أن نحمد الله حمداً كثيراً وكبيراً أن الأمر لم يصل بعد إلى الاعتبارات الفقهية.. المهم أن هذه الجماعة لا تستنفد الفرص، وهي على استعداد مسبق ودائم لإعطاء المزيد منها بحيث يبدو أن هدم المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة، أو قصف قطاع غزة بقنبلة نووية تكتيكية (بحجم القطاع وليس أكثر) لن يثنيهم عن "قراراتهم وقناعاتهم" بالمزيد والمزيد من هذه الفرص.
ولأن حكومة نفتالي بينيت تعرف أنها آيلة للسقوط، حتى وإن حظيت بالمزيد من فرص مجلس الشورى لهذه الجماعة، فإن لسان حالها ولسان حال الحكومة يقول: (يا رايح كثّر مذابح)، ولكن دون أن يلحظ منصور عباس وجماعته، ومجلس الشورى الخاص بهذه الجماعة أن الفرصة التي يتحدثون عنها هي في الواقع والحقيقة فرصة القتل والاغتيال والمذابح، أو هكذا نأمل على الأقل، بأن يكون الأمر يتعلق بضعف القدرة على الملاحظة وليس بأيّ مصيبة أخرى.
لم يلحظ، إذاً، منصور عباس ما قاله نفتالي بينيت عن المسجد الأقصى، ولم يلاحظ النية ببناء أربعة آلاف وحدة استيطانية جديدة لعزل المدينة المقدسة بالكامل، والإطباق عليها، ولم يلاحظ ـ لكثرة تركيزه على الفرص ربما ـ الإعلان عن موجة التطهير العرقي في جنوب الخليل، ولم يلحظ "بطبيعة الحال" كل عمليات القتل اليومية المتواصلة.
لم يلحظ منصور عباس أن هذه الحكومة، والآن بالذات، ونتيجة "للفرصة" "الإخوانية" الأخيرة، وفي ظل احتدام الصراع بينها وبين "المعارضة" بقيادة نتنياهو، وفي ظل حُمّى التنافس على بقاء هذه الحكومة أو سقوطها.. لم يلاحظ أن هذه الفرصة بالذات وتحديداً ستطلق العنان لتنافس مفتوح على أعلى درجات التطرف والعنف، وعلى مبارزات جهنمية بين أطراف معادلة "التوازن" المطلق في الحالة السياسية الإسرائيلية لإثبات "جدارة" التنكيل بالشعب الفلسطيني، و"لتثبيت" وفرض "وقائع" توفرها بالكامل الفرصة التي أغدق بها منصور عباس على اليمين الإسرائيلي في هذا التوقيت تحديداً، وفي هذه الظروف الخاصة الملموسة على وجه الدقة.
ولأن هذه الحكومة الآيلة للسقوط ليس لديها ما تخسره، بل ولأن نفتالي بينيت ليس لديه ما يخسره، فإن الفترة الفاصلة بين هذه الأيام وموعد سقوط هذه الحكومة هي فترة "ذهبية" للقتل والإجرام، ولحسم ما صعب عليها حسمه، ولفرض ما لم تتمكن حتى الآن من فرضه.
ولهذا فقد أفقنا صبيحة، الأمس، على إعدام واغتيال الزميلة شيرين أبو عاقلة، الفارسة الفلسطينية المتألّقة في فضاء الإعلام. إعدام مدبّر لفلسطينية شجاعة عرفت كيف تدافع عن وطنها بحكمة واقتدار، وفرضت حضورها وشخصيتها المهنية العالية.
تمّ في الخفاء والظلام الدامس قبل فجر، الأمس، تحديد الطريقة والهدف، وصدر "القرار بتحييد شيرين" حسب التعبير المعتمد من أجهزة الأمن الإسرائيلية.
ولأن شيرين بخبرتها الطويلة كانت تضع الخوذة الواقية على الرأس، وترتدي السترة الواقية على الصدر والبطن، للحماية من الرصاص القاتل، ولم يتبقَ سوى رجليها اللتين تمشي بهما، ويديها اللتين تمسك بهما الكاميرا، ولأن الإصابات في الأطراف لا تكون قاتلة في العادة فقد اختار القنّاص ـ على ما يبدو ـ المقتل الوحيد المتبقي لديه وهو أسفل الأذن.
تمكنوا منها لكي تموت على الفور، ولكي لا تقوى على قول، حتى ولو كلمة واحدة.
لم يعطوها فرصة وداع زميلاتها وزملائها الذين كانوا يغطون معها أحداث اقتحام المخيم.
شيرين التي تربطنا بها ـ نحن معشر العاملين في الحقل السياسي العام، وفي مجال الإعلام السياسي ـ علاقة وثيقة من الصداقة والزمالة والأخوة، هي صحافية مثابرة وعلى درجةٍ عالية من الوعي السياسي، والثقافة الوطنية الأصيلة.
شيرين التي لا يخلو منها المكان، مكان الحدث، لا يُردّ لها طلب، ولا يستطيع أحد أن يعتذر لها عن مقابلة، أو إبداء رأي، لأنها تتصف بأعلى درجات الحرص والصدق في نقل الأخبار والآراء وحتى ما يدور في ذهن الناس.
شيرين، الدمثة والخجولة، المبتسمة في ما بين أعمالها المزدحمة، والمتجهّمة في غمرة وصخب الأحداث ترجّلت كفارسة، وسقطت بما يليق بفعل البطولة.
ولأن شيرين نجت مرّات ومرّات من الرصاص القاتل، لم تتراجع، وواصلت رسالتها، وتمسّكت بدورها، وأخلصت في عملها، وبقيت على عهدها، وظلّت شعلة متوهّجة في الدفاع عن وطنها وقضيتها فقد قتلوها.
في فترة نشاطي المكثف في المجال الإعلامي كانت شيرين تعرف تحفّظاتي الكثيرة والكبيرة على قناة "الجزيرة"، وكانت تخشى نبرتي العالية ـ حسب طبيعة السؤال والموضوع ـ في إجاباتي عن أسئلتها الرصينة، فكانت لا تتردد بابتسامتها المعهودة من الهمس في أُذني: "خِفّ علينا شوي"، وكنت غالباً ما أستجيب لها، لمعرفتي بعمق انتمائها الوطني، وحرصها الدائم على الإبقاء على الأجواء الإيجابية بقدر المستطاع، وكانت من الفطنة والذكاء بحيث أنها كانت تعرف كيفية التفريق بين النبرة والموقف.
الفلسطينية، المقدسية، التلحمية شيرين أبو عاقلة أبكتنا وأوجعتنا وأدمت قلوبنا لأنها قُتلت غدراً بأحطّ الأساليب وأكثرها خِسّةً ووضاعة، وكل "ذنبها" أنها فلسطينية متألّقة، وإعلامية مميزة، وكانت تصل الليل بالنهار، لا تكلّ ولا تملّ، ولا تستقرّ في مكان، ولا تعرف للراحة طعمها، لأن راحتها وسعادتها وفرحها كان وطنها الذي عرفت وأجادت الدفاع عنه، وكان شعبها الذي انتمت إليه وقضيتها التي أخلصت لها.
أوجعتنا كلّنا، في الوطن والشتات، لأننا فقدنا فلسطينية مقاتلة وشرسة في ساحة الصراع على الحقيقة، عرفت دائماً كيف تتفوّق، وكيف تُبدع، وكيف تُدير دفّة هذا الصراع.
رحلت شيرين ونحن لا نعرف بعد حجم القتل القادم في مرحلة حسّاسة وخطرة، ستكثر فيها المذابح ويكبر فيها القتل والإجرام لأن المتنافسين على هذه المذابح وهذا الإجرام هم في عجلة من أمرهم.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.