ماذا تحمل اتفاقية "أوكوس"؟
مقالات

ماذا تحمل اتفاقية "أوكوس"؟

اتفاقية أمنية مهمة للغاية وخطيرة تلك التي وقعت بين الثلاثي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا واستراليا منتصف الأسبوع الماضي، في مرحلة تشهد فيها الصين صعوداً في السياسة والاقتصاد على المسرح العالمي، وفي المقابل صعود روسي يلعب دوراً في مسار تحويل النظام الدولي إلى متعدد الأقطاب.
شراكة «أوكوس» الإستراتيجية بين الدول الثلاث أحدثت ربكة في العالم، خصوصاً من جانب الصين التي اعتبرتها تهديداً مباشراً لمصالحها في المحيطين الهندي والهادي، وكذلك حزناً شديداً وغضباً من قبل فرنسا التي استغربت فسخ عقد مع استراليا بشأن بيع الأخيرة 12 غواصة فرنسية تعمل بالمحركات التقليدية.
باريس تلقت صفعة قوية على وجهها حينما علمت أن كانبيرا قررت الاستدارة نحو واشنطن ولندن لمساعدتها في بناء 8 غواصات تعمل بالطاقة النووية، وذهبت في موقفها إلى حد أن استثناءها من هذه الشراكة الأمنية المهمة هو بمثابة تجاهل لمصالحها في المحيطين الهندي والهادي.
للغضب الفرنسي المبرَّر بعدان، الأول سياسي والثاني اقتصادي، حيث تجد في البعد السياسي أن هذا التحالف ينطوي على رسالة أميركية مباشرة من موقف باريس إزاء دعواتها مع برلين لإقامة جيش أوروبي موحد يحمي مصالح أوروبا في ظل الضعف التدريجي لحلف شمال الأطلسي «الناتو».
بالتأكيد تريد واشنطن أن تصل هذه الرسالة إلى باريس، لأن مسألة إقامة جيش أوروبي بالنسبة للعقلية الفرنسية يعني كسر تبعية أوروبا للولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن انتقادات الأخيرة بشأن دفع دول حلف «الناتو» لزيادة الدعم العسكري والإنفاق المادي عليه.
لطالما دعت باريس وبرلين إلى إنشاء قوات أوروبية مشتركة لحماية الدول الأوروبية وتحقيق مصالحها خصوصاً في محيطها الإقليمي، وفسرت هذه الدعوات على أنها تهدف إلى بناء الجاهزية والاستعدادية القتالية الأوروبية مقابل أي مهددات من قبل الجوار وتحديداً من روسيا الصاعدة.
مع ذلك تدرك الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا أهمية حلف «الناتو» في مواجهة أي تمدد روسي نحو أوروبا الغربية، وكذلك تجد واشنطن في هذا الحلف «مسمار» يفرمل التقدم الروسي، لكن الثقل الأميركي الآن موجّه نحو بحر الصين الجنوبي حيث تبني بكين الجزر الاصطناعية لتوسع نفوذها البحري.
أما فيما يتعلق بفسخ صفقة الغواصات بين باريس وكانبيرا، فهذه صفعة أخرى على الوجه الآخر لفرنسا لأنها حُرمت من استلام أكثر من 40 مليار دولار ثمن بناء الغواصات، وهي تبحث الآن عن دول بديلة مثل الهند لإتمام صفقة جديدة، في الوقت الذي تأثرت فيه سمعتها العسكرية في مجال سوق بيع السلاح على مستوى العالم.
على المستوى الآخر، لا تقل أهمية هذه الشراكة الثلاثية الاستراتيجية عن أهمية حلف «الناتو» الذي تأسس عام 1949، لأنها تهدف إلى حماية مصالح الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي تبلغ حصتها من تجارتها عبر بحر الصين الجنوبي حوالي 1.2 تريليون دولار من إجمالي ثلث تجارة العالم أو ما يقدر تقريباً بـ5.3 تريليون دولار.
ثمة قلق أميركي شديد من تمدد النفوذ الصيني على خلفية مطالبتها بالسيطرة على ثلثي بحر الصين الجنوبي ونزاعها مع فيتنام والفلبين وبروناي وماليزيا على جزر بحرية، ويفهم من تحول استراتيجية واشنطن إلى آسيا والمحيط الهادي على أنه محاولة تدارك الصعود الصيني وتطويق بكين قدر الإمكان.
لذلك يجوز القول إن واشنطن وجدت مصلحة حيوية في بناء شراكة أمنية مع أستراليا القريبة من جنوب شرقي آسيا والمطلة على المحيط الهندي وجنوب المحيط الهادي، وهي مصلحة أيضاً لكانبيرا التي تعتبر أن هذه الاتفاقية مفيدة أكثر من صفقة الغواصات التي فسختها مع باريس.
أولاً عن آخر ستهدأ العاصفة التي خلفتها اتفاقية «أوكوس»، وأغلب الظن أن الرئيس الأميركي جو بايدن سيتمكن من تطمين حليفه ماكرون بشأن العلاقات الاستراتيجية التي تربط البلدين وأن واشنطن لن تخسر باريس مهما كانت الظروف، وكذلك من المتوقع أن تدفع أستراليا تعويضات مادية لفرنسا عن إفشال صفقة الغواصات.
النتيجة أن عسكرة بحر الصين الجنوبي والاستنفار في المحيطين الهندي والهادي هي استثمار وصناعة رابحة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، لأن «شيطنة» الصين تعني بالضرورة شراء حلفاء واشنطن أسلحة منها بالمليارات، هذا إلى جانب تعزيز الوجود العسكري الأميركي هناك.
كذلك الأمر بالنسبة للصين التي طورّت قدراتها العسكرية شيئاً فشيئاً، لكنها مضت بسرعة أكبر نحو توسيع نفوذها الاقتصادي في العالم، وتنظر إلى مخاطر الاقتراب الأميركي من حدودها على أنه مرحلة جديدة من الحرب الباردة والسباق على التسلح.
العاصفة بين فرنسا والثلاثي واشنطن ولندن وكانبيرا ستمر بسلام، طالما تتفق هذه الدول على تحديد العدو والصديق، وفي النهاية لا تزال الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في العالم والأكثر تأثيراً على حلفائها، وما يحدث الآن سيتجاوز «الحرَد» إلى مستوى دفع ثمن السكوت.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.