لماذا باتت طهران مهددة بالعطش؟
منوعات

لماذا باتت طهران مهددة بالعطش؟

صدى نيوز - لقد كُتب تاريخ مدننا بالماء من بلاد ما بين النهرين إلى مصر ووادي السند، فقد بُنيت أولى المجتمعات الحضرية بجوار الأراضي الزراعية المروية. ورافقت حقول الأرز والذرة والكينوا المدرجة المغمورة انتشار الحضارة في شرق آسيا والأميركتين. وإن غاب الماء، ستذوي المدن الكبرى التي ستشكل ملامح هذا القرن ثم تندثر.

يبدو أن هذا يشكل عامل خطر في عدد متزايد من المواقع. فقد عانت كيب تاون الجنوب أفريقية وتشيناي الهندية في السنوات الأخيرة من جفافٍ قاسٍ جعلهما على حافة الانهيار. كما عانت مدينتا بنغالورو وحيدر آباد الهنديتان، اللتان تشهدان نمواً سريعاً، من ظروف مشابهة العام الماضي. والآن، تواجه طهران أكبر هذه المدن على الإطلاق، إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 15 مليوناً نفس حالة الطوارئ.

يضطر سكان العاصمة الإيرانية إلى قطع المياه عن منازلهم لساعات متواصلة لترشيد استهلاكها، وسط جفاف مستمر منذ خمس سنوات وانخفاض حاد في معدل هطول الأمطار بنسبة 96% عن المعدل الطبيعي.

وقد أعلن الرئيس مسعود بيزشكيان الشهر الماضي أن المدينة قد تضطر إلى إخلاء كامل إن لم ينتهِ الجفاف الحالي قريباً. وهذا يؤكد حقيقة مرّة من حقائق الحياة المعاصرة: حتى المدن المزدهرة نسبياً قد تكون على بعد سنوات قليلة من "يوم الصفر"، أي النقطة التي تنضب فيها مصادر المياه الحيوية.

يعود الوضع المزري في طهران إلى نفس الهوس بأمن الغذاء والطاقة الذي يدفع كثيراً من الدول إلى رفع الحواجز التجارية والتنظيمية أمام الطاقة النظيفة في الوقت الراهن. وقد أدّى الالتزام بالاكتفاء الذاتي الغذائي في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979 -والذي رفض استيراد الطاقة الغذائية لصالح زراعة القمح والأرز محلياً- إلى استنزاف طبقات المياه الجوفية والخزانات لري المحاصيل المُتعطشة. ويُستهلك أكثر من 90% من المياه في الزراعة، ما لا يترك سوى القليل جداً لتلبية احتياجات سكان المدن.

كيف استهلكت السياسات المغلوطة موارد المياه؟

قد يكون ذلك مبرراً في ظل العقوبات الواسعة التي شلّت الاقتصاد الإيراني لعقود، إلا أن ذلك ترافق مع هدرٍ للموارد. فموارد المياه للفرد الواحد في إيران أكبر منها في ألمانيا أو الهند أو كوريا الجنوبية، لذا ينبغي أن تكون كافية لتلبية معظم احتياجاتها لو أُحسنت إدارتها. لكن هذا لم يحدث. فالري بالغمر، وهو أسلوب قديم يهدر كميات هائلة من المياه بالتبخر مقارنةً بالري بالتنقيط الذي يستخدم الأنابيب، ما يزال الطريقة السائدة لري الحقول.

الرسوم الجمركية والإعانات تجعل التجارة مع الدول الأكثر إنتاجية هشة. تُعدّ الصين والهند أكبر منتجي الحبوب، وهما أيضاً مشاركان رئيسيان في تجارة النفط القائمة على المقايضة التي تلتفّ على العقوبات الدولية المفروضة على طهران. مع ذلك، بالكاد تصدّر الصين الغذاء إلى إيران، بينما يواجه مزارعو أرز بسمتي في الهند حظراً على الاستيراد يُفرض بين الحين والآخر كلما أرادت الحكومة الإيرانية دعم مزارعيها المحليين.

تُعدّ تصريحات وزير الطاقة عباس علي آبادي في وقت سابق من هذا الشهر، والتي أيّد فيها استيراد "المياه الافتراضية" -أي المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه والتي ينبغي زراعتها في بلدان ذات معدلات هطول أمطار أعلى- اعترافاً رسمياً نادراً بفشل مساعي الاكتفاء الذاتي، وبضرورة استيراد المزيد من الغذاء من الخارج.

تشير هذه الأزمة إلى اختلال متزايد في دورات كوكبنا. فبينما تعاني إيران نقصاً حاداً في المياه، تسببت فيضانات موسمية غزيرة على الجانب الآخر من المحيط الهندي في أضرار قيمتها 20 مليار دولار، امتدت من سريلانكا إلى فيتنام. ولم يكن مرجحاً حدوث أي من هذين الوضعين لولا تأثيرات تغير المناخ.

الاحتباس الحراري والبصمة الكربونية

بينما يُمكن لإيران الآن أن تتوقع جفافاً مشابهاً لجفاف عام 2025 كل 10 سنوات، كان هذا الجفاف في عالم ما قبل الاحتباس الحراري ليحدث مرة واحدة في القرن على الأقل. وباعتبارها سادس أكبر مُصدر للانبعاثات في العالم، وواحدة من أكبر مُصدّري النفط، فإنها تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الاحتباس الحراري الذي يجعل طهران الآن غير صالحة للسكن.

هي ليست وحدها في هذا الوضع. قد تجد كثيراً من الدول التي تضررت من الفيضانات الآسيوية الأخيرة نفسها أمام جفاف مماثل لما شهدته طهران في المستقبل. في دراسة أُجريت عام 2020 على 12 مدينة كبرى في الدول النامية المعرضة لخطر نقص المياه، احتلت طهران مرتبة متدنية نسبياً. ولتلبية الحد الأدنى من معايير الصحة والنظافة، تحتاج مدن لاغوس وجاكرتا ومومباي وكلكوتا إلى ما لا يقل عن 50% من المياه للفرد الواحد أكثر مما تستطيع أنظمتها توفيره. أما عجز طهران فهو متواضع نسبياً، إذ يبلغ 29%.

الإجلاء ليس الحل. فمثل دلهي الملوثة وجاكرتا الغارقة، وصلت طهران إلى مرحلة يستحيل فيها نقل سكانها إلى مكان آخر، بغض النظر عن رغبات الشركات أو المسؤولين الحكوميين.

هناك خيارات أفضل متاحة. منها تخفيف القيود على استيراد الغذاء، لتخفيف الضغط على الحقول المحلية. واستغلال احتياطيات إيران الهائلة من النفط والغاز لإنتاج الخراطيم والأنابيب، لضمان عدم تبخر المياه المتوفرة لديها. الأهم من ذلك كله، استغلال التجارة المقايضة مع الصين للتحول إلى الطاقة المتجددة. لن يكون مستقبل إيران آمناً حقاً إلا عندما تبدأ بتقليص انبعاثاتها الكربونية.