الطبقة الوسطى الفلسطينية… العمود الفقري الذي يتآكل بصمت
لم تعد أزمة الطبقة الوسطى الفلسطينية مجرد حالة انكماش عابرة، بل تحوّلت إلى عملية تآكل هادئة ولكن منتظمة، تتقدّم خطوة بعد خطوة فيما تقف الدولة والقطاع الخاص موقف المتفرّج. هذه الطبقة، التي شكّلت لعقود طويلة العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، تواجه اليوم أخطر تهديد وجودي منذ عقود، دون أن تلوح في الأفق سياسات جادة لحمايتها أو حتى استيعاب حجم الكارثة.
فالطبقة الوسطى ليست مجرد شبح اقتصادي يتحدد وفق الدخل الشهري، بل هي الفئة التي تبني التوازن الاجتماعي، وتستثمر في تعليم أبنائها، وتنعش الأسواق، وتدفع الضرائب، وتشكل الطلب الأكثر استقرارًا في الاقتصاد. وعندما تبدأ هذه الطبقة في الانزلاق نحو الهشاشة، يرتجف معها توازن المجتمع بأكمله.
الضربة الكبرى جاءت في نهاية عام 2023، حين مُنع أكثر من 170 ألف عامل فلسطيني من دخول سوق العمل الإسرائيلي. هؤلاء لم يكونوا هامشيين، بل كانوا يشكلون رافعة حقيقية للطبقة الوسطى بفضل دخولهم الأعلى نسبيًا. وبإغلاق هذا الباب، فقدت الأسواق الفلسطينية ما يقارب 3 مليارات شيكل سنويًا من الدخل الذي كان يُضَخّ مباشرة في الاستهلاك. هذا الانكماش المفاجئ في السيولة انعكس على كل زاوية من زوايا الحياة: ضعف في القدرة الشرائية، ركود في الأسواق، وتدهور مباشر في مستوى معيشة آلاف الأسر التي وجدت نفسها فجأة دون مصدر دخل مستقر.
وبالتوازي مع هذا، بقيت رواتب القطاع العام — التي تُعد شريان الاستقرار للطبقة الوسطى — رهينة الاضطراب. تأخير، تجزئة، اقتطاع، وقلق دائم حول انتظام الرواتب. كيف يمكن لطبقة وسطى أن تحافظ على تماسكها بينما مصدر دخلها الأساسي يعيش فوق رمال متحركة؟ إن غياب اليقين المالي وحده كفيل بتقويض الثقة وتدمير القدرة على التخطيط لمستقبل الأسرة.
أمّا القطاع الخاص، فحالته لا تختلف كثيرًا. معظم القطاعات تعاني الركود، وفرص العمل الجديدة شبه متوقفة، والقدرة على رفع الأجور باتت شبه مستحيلة. ويكفي أن نعلم أن أكثر من 40 ألف موظف في الضفة الغربية يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ 1,880 شيكلًا، وهو مبلغ لا يغطي أكثر من نصف الاحتياجات الأساسية للأسرة. كيف يمكن لمن يتلقى أقل من كلفة المعيشة أن يبقى ضمن الطبقة الوسطى؟ إنها مفارقة تكشف حجم الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الذي يعيشه المواطن.
ومع تراجع الدخل، جاءت موجة التضخم لترفع أسعار الغذاء والنقل والكهرباء إلى مستويات غير مسبوقة، حيث سجلت المواد الغذائية ارتفاعات تجاوزت 12% في بعض الأشهر، بينما ارتفعت رسوم المدارس الخاصة — التي تعتمد عليها غالبية أسر الطبقة الوسطى — بما بين 20 و30% خلال السنوات الأخيرة. هذا الارتفاع لم يقابله أي تحرك في الأجور أو سياسات إنقاذ اقتصادية، ما يعني أن الطبقة الوسطى تُدفَع دفعًا نحو مستويات معيشية أدنى، دون أي حماية.
وفي ظل هذه الظروف، أصبحت القروض عبئًا يثقل كاهل الأسر أكثر من كونها وسيلة لتحسين مستوى المعيشة. فقد تجاوزت القروض الاستهلاكية للأفراد 7 مليارات شيكل، ومع تراجع الدخل وارتفاع النفقات، أصبحت الأقساط الشهرية فخًا لا يمكن الهروب منه. كثير من الأسر تلجأ إلى الاقتراض لتغطية الأساسيات، في مؤشر خطير على الانحدار نحو الفقر المقنّع.
ويزيد من خطورة المشهد أن النظام المالي الفلسطيني نفسه يقف أمام تحديات إضافية — من أزمة تراكم الشيكل إلى هشاشة العلاقة المصرفية مع النظام المالي الإسرائيلي. وعندما يهتز النظام المصرفي، تكون الطبقة الوسطى أول المتضررين، لأن مدخراتهم ورواتبهم وقروضهم تمر عبر منظومة مالية غير مستقرة أصلًا.
لكن أخطر ما في المشهد ليس الأرقام، بل صمت الدولة. لا توجد سياسات ضريبية لحماية هذه الطبقة، ولا مبادرات لدعم قدرتها على الصمود، ولا رؤية لإدارة الأزمات التي تضغط عليها من كل اتجاه. وكأن الدولة تراهن على قدرة هذه الطبقة على إنقاذ نفسها، في وقت تُسحق فيه تحت ضغط اقتصادي واجتماعي لا يرحم.
مع ذلك، لا يمكن القول إن الطبقة الوسطى في طريقها إلى الزوال الكامل. فالتجربة التاريخية تؤكد أن الطبقات الاجتماعية لا تختفي، بل تُعاد صياغتها. ومع تطور الاقتصاد الرقمي والعمل عن بعد والمهن الجديدة، قد نشهد ولادة طبقة وسطى مختلفة في المستقبل؛ طبقة تعتمد على مصادر دخل جديدة ومهارات حديثة وتكنولوجيا متقدمة. لكن هذا لن يحدث تلقائيًا، بل يحتاج رؤية وطنية شجاعة تتجاوز إدارة الأزمات إلى بناء اقتصاد قادر على حماية من يقف في وسط السلم الاجتماعي.
الحقيقة القاسية التي يجب أن يسمعها صانع القرار هي أن المجتمع بلا طبقة وسطى هو مجتمع على حافة الاضطراب، وأن أي اقتصاد يفقد طبقته الوسطى يفقد رئته الأساسية. والسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس: “إلى أين تتجه الطبقة الوسطى؟” بل: لماذا لم تُتخذ أي خطوة حقيقية لحمايتها؟
قمة العشرين: جنوب أفريقيا تدفع أولويات المهمَّشين إلى الطاولة.
عدالةٌ عمياء أمام فلسطين… مُبصِرة أمام أمريكا وإسرائيل
لماذا لم يتم إعلان قطاع غزة كمنطقة منكوبة؟
غزة والمستقبل الوطني… كيف ينقذ الفلسطينيون مصيرهم المهدد؟
هدنة من طرف واحد : غزة ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار
واشنطن وتل أبيب: خلافات أم مناورات؟
بأخذ من عمري وبعطيها...











