منظومة النقد تحت الضغط.. من يُنقذ البنوك الفلسطينية من فخ التكدس؟
أهم الأخبار

منظومة النقد تحت الضغط.. من يُنقذ البنوك الفلسطينية من فخ التكدس؟

خاص اقتصاد صدى-منذ سنوات تتفاقم أزمة تكدّس الشيكل في البنوك الفلسطينية، لكنها اليوم بلغت ذروتها الأخطر، فهي في ظاهرها أزمة اقتصادية ومصرفية، أما في جوهرها فهي أزمة سياسية مركبة صاغتها إسرائيل بعناية، بقيادة حكومتها اليمينية المتطرفة، بقصد تقويض الاقتصاد الفلسطيني وممارسة الضغط على السلطة الوطنية ومؤسساتها المالية، وعلى القطاع المصرفي الفلسطيني الذي أظهر في كل مرة صموداً يُحتذى به.

لكن أسئلة جوهرية تفرض نفسها على من يتأمل في هذه الأزمة بتعمق، هل يدرك المواطن الفلسطيني الأهداف الإسرائيلية الحقيقية الكامنة خلف هذه السياسات؟ وهل هو مستعد للمساهمة في احتوائها؟

والسؤال الأبرز الذي لا يمكن تجاهله، هل يمكن لسلطة النقد والبنوك الفلسطينية أن تتحمل هذا العبء وحدها؟ أين تقف مؤسسة الرئاسة، والحكومة، ووزارة المالية؟ وأين هو التحرك السياسي الفاعل على المستويات الدولية لمعالجة أزمة بهذا الحجم والتعقيد؟

معنى هذه الأزمة

أزمة تكدس الشيكل تعني عدم قدرة المصارف الفلسطينية على شحن فائض عملة الشيكل إلى البنوك الإسرائيلية، ما يؤدي لتراكمها في خزائن البنوك.

وتفرض إسرائيل سقفاً على إيداع النقد الورقي في بنوكها، وهي الجهة الوحيدة التي يستطيع القطاع المصرفي الفلسطيني التعامل معها خارجياً.

وسابقاً، كانت تستند الادعاءات الإسرائيلية إلى أنها تقوم بتحويل مبالغ مقاصة للجانب الفلسطيني تُقدر بمليار شيكل شهرياً، إلى جانب دفع أجور للعمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر بما يقارب مليار ونصف شيكل شهرياً، ما يجعل إجمالي الأموال المتدفقة إلى السوق الفلسطيني حوالي 2.5 مليار شيكل. غير أن البنوك الفلسطينية، عند سعيها لإعادة الأموال إلى البنك المركزي الإسرائيلي، تبلغ قيمة الأموال المعاد توريدها نحو 4 مليارات شيكل. وهنا تبرز تساؤلات إسرائيلية حول مصدر الفارق البالغ مليار ونصف شيكل، رغم أن معظم تلك الأموال ناتجة عن نشاطات اقتصادية وتجارية مشروعة داخل السوق الفلسطينية، فالنقد يتدفق من مصادر متعددة أبرزها مشتريات فلسطينيي الداخل المحتل وأجور العمالة الفلسطينية ومعاملات تجارية تتم عبر الدفع المباشر.

وتكمن دوافع إسرائيل في هذا السلوك في البعد السياسي والاقتصادي، لا في الأسباب التقنية، فكل شيكل لا يعود إليها يُعد بمثابة قرض مجاني بلا فوائد أو التزامات. 

وقد ساهم اتفاق باريس الاقتصادي في تكريس هذا الوضع، إذ فرض الشيكل كعملة إلزامية، وجعل من البنوك الإسرائيلية مثل بنك هبوعليم وديسكونت القناة الوحيدة التي يمكن للفلسطينيين من خلالها الوصول إلى النظام المالي العالمي.

"سوق سوداء"!

إلى جانب السقف الذي تفرضه إسرائيل على حجم الأموال التي يمكن للبنوك الفلسطينية تحويلها، هناك عوامل إضافية تُفاقم حجم السيولة النقدية وتُعمّق الأزمة المالية، من أبرز هذه العوامل إقبال سكان الداخل المحتل على التسوق من الأسواق الفلسطينية، مما يضخ المزيد من الأموال، كما أن شراءهم للعقارات والأراضي والدفع نقداً يعزز من تراكم الأموال.

كذلك، تتم بعض المعاملات التجارية بين التجار الفلسطينيين والإسرائيليين نقداً، ما يدفع التاجر الفلسطيني لاحقا لإيداع هذه الأموال في البنوك المحلية، ورغم أن هذه الأموال ناتجة عن عمليات تجارية قانونية، إلا أن إسرائيل تتعامل معها كما لو كانت أموال "سوق سوداء"، وتُقيّد تحويلها، فإذا كانت إسرائيل تُواجه مشاكل في التهرب الضريبي، فلماذا تُحمّل الفلسطينيين تبعات أزمتها؟

حملات توعية وجوائز بدون جدوى!

على مدى سنوات، بذلت سلطة النقد الفلسطينية والبنوك جهوداً حثيثة لتشجيع المواطنين على تبني وسائل الدفع الإلكتروني، من خلال حملات توعوية مكثفة وبرامج تحفيزية تتضمن جوائز.

وقد سارت على النهج ذاته شركات الكهرباء والاتصالات وشركات فلسطينية أخرى، حيث نصحت بالدفع الإلكتروني مقابل الحصول على خدماتها. كذلك، أطلقت جمعية البنوك في فلسطين حملة جوائز استهدفت من يقومون بشحن الوقود في محطات المحروقات باستخدام وسائل الدفع الإلكتروني، وشملت الحملة أيضاً موظفي المحطات لتحفيزهم على توعية الزبائن وتشجيعهم على هذا الأسلوب الحديث في الدفع.

ورغم تلك الجهود المبذولة، ظلت الاستجابة دون المستوى المطلوب، إذ لا يزال كثير من المواطنين يُفضلون التعامل بالنقد الورقي، متمسكين بعادة الاحتفاظ بالأموال بأيديهم، ومُبررين ذلك بعدم امتلاكهم بطاقات ائتمان أو محافظ إلكترونية."

أكبر من كونها أزمة مصرفية فقط!

تُشكل أزمة تكدس الشيكل في القطاع المصرفي الفلسطيني قضية تتجاوز صلاحيات ومسؤوليات سلطة النقد والبنوك، إذ أن جوهر المشكلة سياسي بامتياز، وليس محصورا في أطر مالية فحسب.

ورغم أن سلطة النقد تلعب دور المنظم للقطاع المصرفي، وتحرص على حماية أموال المودعين والتنسيق المالي، فإن القضية على المستوى السياسي تُستغل كورقة ضغط من قبل الحكومة الإسرائيلية، وتحديدا في ظل القيادة الحالية ذات التوجهات المتطرفة، وهو ما تؤكده حتى وسائل الإعلام العبرية.

ومع كل هذا، لم تُسجل مواقف جادة على مستوى الحكومة الفلسطينية أو مؤسسة الرئاسة. فالحل لا يمكن أن يكون من خلال القطاع المصرفي وحده، بل يتطلب تدخلا سياسيا حقيقيا وشاملا، ويتوجب على المؤسسات السياسية العليا، من رئاسة ووزارات معنية مثل وزارة المالية، اتخاذ مواقف رسمية، والبدء بحوارات مباشرة مع الجانب الإسرائيلي، مع تقديم شكاوى للهيئات الدولية، والضغط نحو إيجاد حلول عاجلة.

ومن جهة أخرى، ورغم مساعي سلطة النقد لكبح هذه الأزمة من خلال تحديد سقف للإيداع النقدي للمواطنين بقيمة 5 آلاف شيكل يومياً، إلا أن هذا الإجراء لم ينجح في الحد من التكدس الفعلي، خاصة عندما يتمكن التجار من تجاوز هذه السقوف عبر استخدام حسابات متعددة، ما يجعل الأموال تُضخ من جديد إلى النظام المصرفي خلال وقت قصير، وتظل الأزمة تراوح مكانها.

فالسؤال الجوهري الآن: إلى متى يُترك القطاع المصرفي الفلسطيني يواجه هذه الضغوط منفردا؟ وما المطلوب من القيادة السياسية؟ آن الأوان لاتخاذ خطوات جادة ومسؤولة على أعلى المستويات.

دور سلطة النقد

لعبت سلطة النقد الفلسطينية دورا محوريا في إدارة أزمة تكدس الشيكل، متخذة سلسلة من الإجراءات السياسية والميدانية والتقنية.

ومنذ بدايات الأزمة، كثّف محافظ سلطة النقد لقاءاته الدولية في أمريكا والكويت والأردن ومصر، إلى جانب اجتماعات أخرى مع مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ووزارة الخزانة الأمريكية، للضغط على إسرائيل بهدف السماح بتمرير العملة المتكدسة.

على الصعيد التقني، طوّرت سلطة النقد البنية التحتية الرقمية، بإطلاقها أنظمة مثل ESadad وiBURAQ، وتوقيعها عشرات الاتفاقيات مع المؤسسات العامة والخاصة لتعزيز بوابات الدفع الإلكتروني والتحويل الفوري، في إطار سياسة تحوّل رقمي شاملة، كما استمرت بإطلاق حملات توعوية وتجارية مكثفة، وصلت إلى المدارس والجامعات والأحياء، لتعزيز ثقافة الدفع الإلكتروني بين مختلف فئات المجتمع.

ومع تفاقم الأزمة، خرجت سلطة النقد في حملة تحمل رسائل توعية ومسؤولية، كما أطلقت حملات إعلامية للتشجيع على الدفع الفوري في قطاع غزة، الأمر الذي انعكس في تجاوب واسع النطاق، تجاوز عدد المحافظ الإلكترونية فيه مئات الآلاف. 

ومؤخرا كثفت سلطة النقد التنسيق المؤسسي، وعقدت اجتماعات مكثفة مع رئاسة الوزراء، ووزارة المالية، والتجار، والغرف التجارية، والبنوك، لضمان اتساق الجهود وتكاملها في حماية الاقتصاد الفلسطيني وحقوق المواطنين.

ما المطلوب؟

لقد بات من الضروري الوصول إلى مرحلة تُجنب القطاع المصرفي الفلسطيني أزمة تكدس الشيكل، أو على الأقل تسريع عملية التحول نحو الدفع الإلكتروني بشكل منهجي ومدروس، ويُعد فرض استخدام وسائل الدفع الرقمية في بعض القطاعات خطوة حيوية لتحقيق ذلك الهدف.

فمن المقترح أن تُلزم محطات الوقود المواطنين بعدم قبول المدفوعات سوى من خلال البطاقات البنكية أو المحافظ الإلكترونية، فكل مواطن قادر على ذلك فعلياً، ومن لا يملك بطاقة يستطيع إصدارها من أي بنك.

فلو أن سلطات الاحتلال فرضت الدفع الإلكتروني الإجباري لضريبة المغادرة عبر المعابر الفلسطينية، لوجدنا استجابة عالية من قبل الفلسطينيين، نتيجة ارتباط هذه الإجراءات بالحاجة الملحّة للسفر وخضوعها لقرار إسرائيلي مباشر لا يُمكن تجاوزه.

وتؤكد التجربة أن اتخاذ قرارات حاسمة هو ما يدفع المواطنين إلى التكيّف مع أساليب الدفع الحديثة، فعلى سبيل المثال، عندما فرضت ما تُسمى "الإدارة المدنية الإسرائيلية" استخدام تطبيق "المنسق" لاستخراج التصاريح، اضطُرّ الجميع سواء كانوا عمالاً، أطباء، معلمين أو مزارعين، إلى تحميل التطبيق والاعتماد عليه، لأنه لم يكن بالإمكان الحصول على الخدمة إلا بهذه الطريقة.

فلماذا لا يُتخذ ذات النهج من قبل سلطة النقد والبنوك الفلسطينية، خاصة في القطاعات التي تشهد تداولا نقديا مرتفعا، كالمحال التجارية الكبيرة، محطات تعبئة الوقود، محطات الغاز، أو عند تنفيذ عمليات الشراء المرتفعة القيمة مثل الأثاث والأجهزة الكهربائية؟ إن فرض استخدام الدفع الإلكتروني في تلك الحالات، بالتنسيق مع الحكومة الفلسطينية وبغطاء رسمي، قد يُحدث فرقا كبيرا في السيطرة على السيولة النقدية وتحقيق التوازن المطلوب داخل الجهاز المصرفي.

وختاماً، تظل الحلول المطروحة حتى الآن عاجزة عن معالجة جذور المشكلة الحقيقية، إذ تشير المعلومات الواردة إلى اقتصاد صدى بوجود أكثر من 10 مليارات شيكل مكدسة في البنوك العاملة داخل فلسطين. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى حل جذري يُعيد ضخ هذه الأموال إلى إسرائيل أولاً، ثم تتبعه إجراءات فاعلة على المستوى الفلسطيني لضمان الحد من إعادة تراكم الشيكل إلى هذه المستويات مجدداً.