"باب منزلي هو الأجمل"
مقالات

"باب منزلي هو الأجمل"

«باب منزلي هو الأجمل» مبادرة اقترحها الفنان المقدسي رائد سعيد ونفذها بمشاركة مجموعة من المتطوعين الشبان والأطفال. فكرة المبادرة تقوم على تزيين مداخل البيوت والحارات بالمزروعات والورود، وتلوين الأبواب والشبابيك والأعمدة والجدران بألوان وزركشات جاذبة، والمحافظة على نظافة الحارة. المبادرة بدون دعم مالي خارجي وداخلي، اعتمدت فقط على ما قدمه أهل الحارة من مزروعات وأصص ودهانات، واعتمدت على المتطوعين في التنفيذ، ولا شك في أن الاعتماد على الذات كان عنصر قوتها. المبادرة جاءت محاكاة لما شاهده الفنان سعيد في فينيسا وبلدات اوروبية قديمة، التي تبدو جميلة بفعل مبادرات فنانين وعازفي موسيقى وإدارات متنورة. ويضيف سعيد في مقابلة له مع فضائية الجزيرة، أن البلدة القديمة في القدس اهم بكثير على صعيد التصميم المعماري، وتبدو أكثر عراقة نظراً لتنوع الحضارات المتعاقبة على المدينة. مبادرة سعيد خرجت عن المألوف عندما حرّكت المكان -حارة باب حطة في البلدة القديمة / القدس – وأسبغت عليه مستوى من الجمال الذي سرعان ما جذب اهتمام وإعجاب المواطنين في الحارة. النساء كن الأكثر إعجاباً وتأييداً، والأطفال كانوا الأكثر انخراطاً في التنفيذ. إحساس الناس المشترك والمتبادل بأهمية المكان بدأ ينشأ ويُعزز الانتماء له ويظهر استعداداً لتطوير مكانته. لقد لفت الفنان سعيد الانتباه الى زاوية تعامل حداثي مع المعالم الأثرية ليس في البلدة القديمة في القدس بل وفي البلدات القديمة في الخليل ونابلس وبيت لحم، وكذلك في غزة وأريحا وسبسطية واماكن أخرى ينطبق عليها ما هو في البلدة القديمة في القدس الى حد كبير مع تميز الاخيرة أكثر. وتحديداً ما أحوج البلدة القديمة في الخليل التي تواجه تمدداً استيطانياً يهدد معالمها التاريخية، الى تدخلات فنية وجمالية من هذا النوع.
التجربة المقدسية «باب منزلي هو الأجمل» أعادتني الى تجربة «كوم غراب» في مصر القديمة، الحي الذي تعرض لمحاولة إزالة قبل ما يزيد على 25 سنة من قبل شركات تجارية مصرية، تلك الإزالة التي تضمنت تشريد الآلاف من سكانه شبه المعدمين. بعد صدور إنذار بإخلاء المنازل المتواضعة بادرت مجموعة من الفنانين والفنانات المصريين بتزيين الأبواب والشبابيك والجدران والأعمدة بالألوان، أعادوا تشكيل البيوت وقدموها على صورة لوحات فنية جميلة وحولوا كل بيت الى لوحة فنية. في البداية قاوم أبناء الحي الشعبي المحاولة واعتبروها جزءاً من مؤامرة تشريدهم، ولكن ومع بدايات إنجاز المشروع الفني التطوعي، انخرط الأطفال والشبان وبعد ذلك السكان في إنجاز المشروع الفني. توحد الفنانون والفنانات في إعادة تشكيل المكان جمالياً، فأحبه مواطنوه وأحسوا بالانتماء له وأصبح المكان محجاً لمجموعات فنية وسياح انضموا للحراك الفني الشعبي. وتحول الدفاع عن المكان دفاعاً يساوي الدفاع عن وجود ومصالح أهالي الحي. وكانت النتيجة فشل الإزالة وبقاء السكان أكثر من عقدين، إلى ان جرى مؤخراً تأمين السكان بوحدات سكنية مجهزة بالكامل بالأثاث وسائر الاحتياجات. كان ذلك نتاجاً للمقاومة الجمالية التي بدونها سيشرد سكان الحي بلا رحمة.
 المشترك في التجربتين الفلسطينية والمصرية هو العنصر الجمالي الذي يوفره الفن، ويوظفه بشكل غير مباشر في الدفاع عن الحقوق، وفي نيل الحرية. مع ان الواقع الفلسطيني بوجود احتلال إقصائي هو أكثر تعقيداً، لكنه لا يغير من واقع أن الجماليات عنصر مهم في حياة الانسان الفلسطيني. التعقيد ينبع من واقع الفلسطيني المنكوب باحتلال يُجرم بحثه الدائم عن حريته، ذلك البحث الذي لا ينفصل عن إحساسه بالجمال، الذي عادة ما يستثار بأعمال فنية بسيطة ومعقدة. الاحتلال يهدد طاقة الاحساس بالجمال، باشتراط قبول الفلسطيني وسكوته او خنوعه، عبر عمليات حصار ومراقبة وترهيب وترغيب وتمييز وقمع واحياناً قتل. فالفلسطيني مرفوض ومتطرف وإرهابي، حتى اذا طالب بحقوقه المُعَرّفة في القانون الدولي، كإنهاء الاحتلال والاستيطان وعودة اللاجئين وحرية التنقل والحركة وتغيير مكان السكن. رفض الفلسطيني للاحتلال والبحث عن الحرية كبديل يعتبر عملاً غير مشروع.
زراعة الفلسطيني للأشجار المثمرة والحرجية وبخاصة في الأماكن المهددة بالمصادرة، واستعادة العلاقة الحميمة مع الأرض من خلال زراعتها بما يحتاجه الناس، هذه الأعمال تنتمي الى الاستقواء بالعنصر الجمالي وتوظيفه في حق البقاء. وفي هذا السياق يتحول الفلسطيني الى صديق للبيئة. وفي الجهة الأخرى عندما يقوم المستعمرون باقتلاع وحرق الأشجار وبمنع الفلسطيني من الاستثمار في الارض يتحولون الى أعداء للبيئة. وعندما ينتصر جنود ودولة الاحتلال للمستوطنين فإنهم يعطلون القانون والنظام االدوليين، وفي الوقت نفسه يعطلون إحساس الفلسطيني بالجمال ويشوهونه. وثمة مفارقة اخرى، الناجمة عن انتماء الاسرائيلي للعالم الحر ومنظوماته وقوانينه بينما يتناقض كل ذلك مع السلوك الاسرائيلي الذي ينتمي الى التعصب والتمييز والانتهاك والكراهية ورفض الآخر وإقصاء حقوقه. هنا يقدم الاسرائيلي نفسه بهيئة متوحش في مواجهة الطبيعة وجمالياتها وفي مواجهة الانسان والأنسنة. الشق الآخر من المفارقة هي انتماء الفلسطيني لعالم التخلف، لكنه وبرغم وطأة التخلف والكوارث الناجمة عنه، يحاول بسليقته ان يطور إحساسه الجمالي بالمكان وبالبشر. ينتمي التعامل الإسرائيلي والفلسطيني مع قرية عين حوض لتلك المفارقة. كانت عين حوض الفلسطينية جزءاً متسقاً من طبيعة المكان الجميلة الوادعة وقد أطلقت العنان للإحساس الفلسطيني بالجمال. بعد ذلك طرد الإسرائيليون اهالي القرية وحولوا كل بيت من بيوتها الى مقرات وسكن لفنانين إسرائيليين، فصنعوا تنافراً مع المكان وقتلوا الإحساس الطبيعي بالجمال وحولوه الى إحساس مصطنع بالجمال وبالفن.
التربية على الجماليات جزء لا يتجزأ من الثقافة والمقاومة، فالذين انخرطوا في المقاومة من موقع جماليات الشعر والأدب والرسم والفن والموسيقى والإبداع والحب والأخلاق وكل ما هو جميل في تراثنا وتراث البشرية، هؤلاء حافظوا على البوصلة التي لم يخطئ مؤشرها في تحديد مكان الشعب الحر والوطن السعيد المفترضين والمأمولين.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.