وصلني «إيميل» من شخص مجهول، يزعم أنه يسافر عبر الأزمان، وهو قادم من العام 2070، ويصف في رسالته شكل العالم، وأحوال الناس، والأنماط السلوكية السائدة، وطبيعة العلاقات بين البشر والأشياء، وإلى أين وصلت العلوم والتكنولوجيا.. وإليكم نص الرسالة:
«قبل الاسترسال، سأوافيكم بأهم المعطيات والإحصاءات لحالنا في هذا العام: بلغ عدد سكان الأرض خمسة عشر مليار إنسان، في الهند وحدها ملياران ونصف المليار، ومع أنها من أوائل الدول التكنولوجية، وفيها أكبر عدد من المدن الذكية، إلا أن فيها نصف مليار إنسان يعانون الجوع، وما زالوا يعيشون في العشوائيات.. تأتي الصين في المرتبة الثانية بمليارين، فقد عادت لقانون تحديد النسل، ومليار لروسيا وأميركا، وخمسمائة مليون لمصر وأثيوبيا.
الصين هي الدولة الأقوى، تهيمن على ثلثي التجارة العالمية، وتصدر ثلاثة أرباع الصناعات التكنولوجية، وتحتكر «ريسيفرات» الجيل التاسع من الإنترنت.
الكوريتان صارتا دولة واحدة، وقد انضمت إليها تايوان، ومن حين لآخر تهدد بغزو جيرانها، فيما آثرت اليابان العودة إلى عزلتها القديمة.
أصبحت الماندرين اللغة الأكثر انتشاراً، تليها الإنجليزية ثم الإسبانية فالفرنسية وأخيراً العربية.. أما لغة العلم والتجارة، فهي جديدة كلياً، وهي عبارة عن خليط من اللغات الخمس العالمية وتسمى «كلمنتينا»، كما اختفت تماماً مئات اللغات المحلية.
لم تعد للقوة العسكرية التقليدية أهمية كبيرة في صراعات الدول؛ التكنولوجيا والاقتصاد هي المعيار الأهم، وفي هذا الميدان، تأتي الهند بعد الصين، ثم روسيا، فكوريا، فاليابان، ثم كندا، وألمانيا، وفي المرتبة العاشرة أميركا.
كنا نسمع أن أميركا كانت الدولة الأقوى في زمنكم، ثم أوروبا.. لكنها لم تعد كذلك، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الحالي انهار الاقتصاد الأميركي تحت وطأة الديون، ثم جرت حروب إقليمية مدمرة، للسباق على مصادر المياه، خلّفت خراباً كبيراً، على إثرها تدفقت أفواج اللاجئين إلى كندا، ودول الشمال الأوروبي، ما تسبب بمشاكل اقتصادية واجتماعية لا حصر لها.
بعد الحروب، تفاقمت تداعيات التغير المناخي، وظهر فيروس خطير قضى على ملياري إنسان في غضون سنتين، وحصلت ثورات جماهيرية في كل مكان، وسادت الفوضى وأعمال السلب والقتل والتدمير.. بعد كل ذلك تنبهت الشعوب لخطورة ما يجري، وتداعى قادة الدول إلى اعتماد ميثاق جديد للأم المتحدة، أكثر عدلاً وأمناً وإنسانية، ويحرم الحروب والنزاعات.. فيسود السلام، وتزدهر الحياة لفترة من الزمان، لكن النظام العالمي الجديد لم يدم سوى عقدين.. ففي نهايات الستينيات بدأ العالم يتغير جذرياً.
في العام 2050، كانت آخر بطولة للمونديال قد جرت في راوندا، وصلت إلى النهائيات دولتان من إفريقيا، ودولة أوروبية، وقد فازت البرازيل، الدولة الوحيدة التي ظلت وفية لكرة القدم.
تمكن العلماء من اختراع لقاح يقي من 99% من الأمراض، لكنه باهظ الثمن، المستشفيات تحولت إلى فنادق، والطب صار مهنة نادرة، فإذا اشتكى أي شخص من أي مرض، أو تعرض لحادث، كل ما عليه أن يتجه إلى عيادات خاصة، تضم جهازاً بحجم الإنسان، يُـجري له «مسحاً ضوئياً»، فيشخّص علته، ويصف له الدواء، وما عليه إلا كبسة زر فيخرج الدواء من فتحة ملحقة بالجهاز.. إضافة إلى أن الهواتف النقالة تحتوي على تطبيقات تشخّص بدقة كل الفعاليات الحيوية في الجسم، وتقدم له النصيحة الطبية اللازمة.. وهذا الهاتف ألغى عشرات الوظائف والمهن التي كانت معروفة عندكم، فمثلاً إذا طلبت أي استشارة قانونية، ستجد تطبيقات خاصة بها، يُسمح باستخدامها في المحاكم، لأن القاضي نفسه عبارة عن روبوت. وإذا أردت شراء ملابس تقف أمام كاميرا فتختار لك ملابسك بالألوان والقياسات المناسبة، وإذا أردت قص شعرك تجلس على كرسي أمامه صور لموديلات متنوعة، فتختار القَصة التي تعجبك، وتدس رأسك في خوذة، وفي دقيقة ينتهي الأمر.
وإذا أردت الإنجاب، تتيح لك تقنيات الهندسة الوراثية توليد طفل حسب المواصفات المطلوبة، على الكتالوج.. وبتقنيات النانو، يمكن زراعة خلية صغيرة في دماغك لمضاعفة ذكائه، مع توفر كبسولات تعليم بأسعار منافسة، تضم المعلومات والمهارات واللغات التي ترغب بتعلمها.
لم يعد النفط سلعة مهمة، معظم الدول والمدن النفطية تحولت إلى صحارى مقفرة.. المصانع والمدن والبيوت تتزود بالطاقة الشمسية أو النووية، السيارات تعمل على الهيدروجين، دون سائق (وبعضها تطير)، كذلك القطارات فائقة السرعة، والطائرات التي تصل من لندن إلى نيويورك خلال نصف ساعة.
الناس تتواصل فيما بينها بوساطة تقنيات التخاطر، أي نقل وتوصيل الأفكار والمشاعر مباشرة، بمجرد التفكير تتصل بالآخرين دون الحاجة للكلام، كما تخلينا عن الكتابة بخط اليد، وذلك تماشياً مع إيقاع سرعة الحياة الرهيبة، فالعقل يعمل أسرع من اللسان واليدين، ولا نملك ترف إضاعة الوقت بالكلام.
الشركات العملاقة العابرة للحدود صارت هي الحكومات الفعلية، وعبر تقنية الرسائل الضمنية، صارت تتحكم بسحابة الإنترنت، وتشكيل «قبائل رقمية»، فقد اختفت التقسيمات البشرية التي تعرفونها الآن، كما اختفت الأيديولوجيات والطوائف والنظم الاجتماعية التقليدية.
كل منصات التواصل الاجتماعي صارت من الماضي، وحلّ مكانها برنامج تفاعلي للحياة الثانية، ثلاثي الأبعاد، اسمه «ميتافيرس» يحول شخصك وروحك وعقلك إلى رقم.. في الشارع، كل شخص يسير خلف نظارات تعزله عن العالم، يختار مغامرته الشخصية كل يوم، وأي بيئة يرغب العيش فيها افتراضياً، يختار أهلاً وأصدقاء افتراضيين، ولن يكتفي بعمل «بلوك» لمن لا يعجبه، سيقتله فعلياً بكبسة «ديليت».. وفي العقدين القادمين سنتخلى كلياً عن أجسادنا، لنخزّن ذاكرتنا داخل قرص صلب منسلخ تماماً عن العالم الفيزيائي، وقد يحدث هروب جماعي إلى العالم الافتراضي.
في الدول الأكثر تقدماً، تنتشر الروبوتات البشرية بأعداد هائلة.. وهي متفوقة على الإنسان، فهي بذكاء حاسوب بقدرات خارقة، وسرعة خرافية، وقوة الفولاذ، ومرونة ألياف الكربون، لذا دول عديدة حظرت تصنيع الروبوتات، لكن الأمر لن يطول، حتى تهيمن الروبوتات على الكوكب، وتستعبد الإنسان، أو تربيه كحيوان أليف.. من المتوقع في العقدين القادمين أن يختفي البشر، باستثناء مجموعات متناثرة تعيش في محميات لحمايتها من الانقراض.
داخل إحدى تلك المحميات الطبيعية، قد نجد مجموعات بشرية بدائية ما زالت تتجادل حول «علي»، و»يزيد»!!».
في نهاية الرسالة يوجه المرسل دعوة لمن يرغب بالسفر معه إلى المستقبل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.