ثلاثة أشياء عن المستقبل
مقالات

ثلاثة أشياء عن المستقبل

صدى نيوز - يجب أن ترتبط التحولات الإيجابية في المشهد السياسي الفلسطيني الداخلي بالمستقبل أكثر من ارتباطها بأي شيء آخر. وحيث إن البحث عن الأفضل لا يرتبط بتفسير الأخطاء بل بتجاوزها، فإن السعي نحو إعادة بناء الجبهة الداخلية الفلسطينية يجب أن يرتكز على الإجابة عن أسئلة المستقبل لا تأمل الماضي واستعادة النقاش حوله. وفقط ربما في السعي الآخر نحو تمكين الهوية الوطنية والحفاظ على السرديات المكونة للوعي الجمعي، فإن الماضي يصبح نقطة الارتكاز في كل نقاش، وغير ذلك فإن النضال من أجل الأفضل يتطلب استبصار المستقبل لا استحضار الماضي. وفيما لا يمكن تغيير شيء مما جرى، فإن المستقبل وحده الطين التي يمكن تشكيله وفق ما نريد.
ثمة ثلاثة أشياء فلسطينياً يجب التفكير فيها ضمن هذا المنظور الباحث عن المستقبل والساعي نحو تحقيق الأفضل. يتعلق الأول بحقيقة أن المصالحة الفلسطينية يجب أن تسعى نحو المستقبل لا أن ترتهن لخلافات الماضي. ثمة آلام كبيرة في الماضي وأوجاع لا يمكن لكل موج البحار والمحيطات أن يزيلها. فقط الإيمان بأن المصلحة الوطنية وحدها تتطلب ذلك يمكن له أن يخفف من قدر التضحية المطلوبة من أجل تجاوز تلك الآلام. إنها الآلام التي ارتبطت بالانقلاب وأحداثه الدموية وما ترتب عليه من انقسام، وتبعات الأخير على حياة الناس ومن دفعوا ضريبة غالية في سبيل النضال من أجل استعادة الوحدة الوطنية أو قبل ذلك الحفاظ عليها. هذه آلام يصعب نسيانها، لكن العمل من أجل المستقبل يتطلب أن نتجاوز ما نشعر به. صحيح أن الحديث يدور عن انتخابات لا عن مصالحة شاملة، لكن هذه الانتخابات هي الطريق الأول نحو إزاحة آثار الانقسام عن طريق تحقيق المصالحة بحيث لا تكون مجرد انتخابات. وعليه، فإن هذا السعي يجب أن يفكر في المستقبل لا أن يغرق بتفاصيل الماضي. إن العمل وفق هذه الرؤية وحده يمكن أن يعطي الناس أملاً بأن ثمة ما هو أفضل. إنه الشعور بأن المستقبل ورقة بيضاء نكتب فيها حياتنا كما نريد، لا كما حدث. هذا تحديداً ما يجب أن نسعى خلفه. ليس صعباً وليس سهلاً في ذات الآن.
الشيء الثاني المتعلق بالمستقبل هو ما يبحث عنه الناخبون. تأكدوا أن الناخب لا يريد بنش الماضي. ربما يهمه كثيراً ما جرى لأن واقعه هو نتيجة الماضي، لكن المستقبل ليس بالضرورة أن يكون من صنع الماضي. إنه من صنع إرادة يجب أن تتحقق. الناخب لن يهمه أيّهما كان على صواب أو على خطأ، من أجرم ومن لم يجرم، من فرّط أم لم يفرّط. كل هذه الثنائيات والمتناظرات لم تعد تسمن ولا تغني من جوع أمام المستقبل الذي يقف أمامه عاجزاً غير قادر على النظر ولا على التفكير في أيامه القادمة. وربما يكون هذا صحيحاً بعموميته، لكنه أكثر دقة فيما يتعلق بجيل الشبان الذين كانوا أطفالاً لحظة الانقلاب الدموي، ودفعوا الثمن الأكبر من حياتهم ومستقبل أيامهم. هؤلاء ما سيهمهم المستقبل. وحين التحدث لهم، فإن المستقبل وليس الوعود الكاذبة هي ما سيبحثون عنه. عادة ما تكون الانتخابات لتقرر مصير ليس من انتخبوا بل حيوات من يأتون بعدهم. وربما من علامات النقد الفارقة للديمقراطية أن أقلية (من يملكون حق الانتخابات) يقررون لأغلبية صامتة (صغار السن). وهذه قصة أخرى، ولكن يجب علينا أن ننتبه أن الناخب ينظر إلى المستقبل ولا يريد مَن يشير له إلى القمر بل مَن يستطيع أن يقنعه بأن القمر موجود فعلاً بلغة المسرحيين.
أما الشيء الثالث المتعلق بالمستقبل فهو الحالة الوطنية الفلسطينية. أعتقد أننا بحاجة لإعادة التفكير في مستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية. وأعتقد جازماً أن ثمة حاجة لإعادة قراءة مآلات المشروع الوطني. وربما «فتح» أكثر من غيرها بحاجة لفعل ذلك لارتباط برنامجها السياسي بالحالة الوطنية العامة، وحقيقة أن ما يفعله الكل الفلسطيني إما يتفق قليلاً أو كثيراً مع «فتح» أو يختلف قليلاً أو كثيراً معها، وأن ما تفعله «فتح» هو محور النشاط السياسي الفلسطيني. لا يحب الكثيرون هذا وقد يتنكرون له ولكنه حقيقة. عموماً، والأمر كذلك، تقع على «فتح» مسؤولية إعادة النظر في برنامجها السياسي الذي شهد تحولات بدوره منذ البذرة الأولى للفكرة الفتحاوية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وبعد ذلك انطلاقة الحركة في الخامس والستين منه. ثمة سؤال يجب أن نسأله بوضوح، وأظن أنني سألته قبل ذلك على هذه الصفحة. هل نحن ملزمون بالتقيّد بحلّ الدولتين؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، هل يجب أن نتقيد بنموذج حل الدولتين وفق حدود الرابع من حزيران؟ أشك بأن ثمة من يمكن أن يقول جازماً بذلك. وأظن أن البحث عن نماذج أخرى للحلّ، على قاعدة الاشتباك من أجل تحقيق التطلعات الوطنية، يجب أن يكون أولوية أي تفكيراً في المستقبل. هذا لا يعني أننا كنا على خطأ، ولكن يعني أكثر أننا بحاجة للتفكير بالمستقبل إذ أردنا أن نواصل كفاحنا من أجل استعادة أرضنا. وجوهر كل ذلك الإجابة عن السؤال الكبير: ماذا نريد؟ إذا عرفنا الإجابة، يمكن لنا أن نحدد معالم المستقبل الذي نبحث عنه.
لا تبدو تلك الأشياء الثلاثة منفصلة، بل مترابطة ومتداخلة يفرض البحث الأكثر عمقاً عنها إجابة مترابطة. إن الحالة الوطنية الفلسطينية التي يصار إلى صياغتها وفق التفاهمات الداخلية عبر الانتخابات، هي في جوهرها بحاجة لمشروع وطني قادر على مواجهة التحديات ويحمي الأرض والمواطن والحقوق وأصحابها في المنافي، كما يلبى تطلعاتهم. وفق هذه الرؤية المتكاملة يمكن للمستقبل أن يكون أكثر وضوحاً، ويمكن لنا رغم ما يحيط بنا من تهديدات وتحديات أن نواصل البقاء على هذه الأرض ونحلم بها.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.