في مواجهة التحديات لمخططات منطقتنا وخصوصيات المرحلة
مقالات

في مواجهة التحديات لمخططات منطقتنا وخصوصيات المرحلة

بعد ما يقارب الثلاث أشهر من التباهي والثقة بقدرة الأحتلال على "تحقيق النصر وسحق المقاومة" ، بدأت نبرة التشاؤم والخلاف تسيطر على الخطاب السياسي الإسرائيلي ، تبعاً للفشل في الحسم وللإخفاق في تحقيق أي هدف استراتيجي من العدوان الجاري على شعبنا الفلسطيني وبشكل خاص في قطاع غزة ، سوى من حجم الفظائع غير المسبوقة بالتاريخ المعاصر. 

 

وبنظرة شمولية ضرورية لما يجري ، فانني أرى أن ما كان يُراد من "تحقيق انتصار" مما يجري بالإضافة إلى الهدف السياسي الأساس بما يخدم الرؤية الصهيونية الاستعمارية التي تحاول تنفيذها حكومة نتنياهو بشكل متسارع والتي ايضا قد مهدت لها كافة حكوماتهم المتعاقبة ، هو جزء من جهود التطهير الأمريكية الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط بمعاني أهميتها المختلفة وتحديدا السياسية والاقتصادية منها . وهي ايضا تتعلق بخدمة الهدف الذي اشرت له من خلال التخلص من التيارات والقوى التي ترفض وتقف في وجه العالم الغربي في تنفيذ مخططاته في منطقتنا ، والتي يمكن وصفها بمصطلح "عملية كونترا -٢" ، لاحقا لعملية مخطط "كونترا" الأولى التي تشابه ما نفذته الولايات المتحدة بتعاون إسرائيل في امريكيا اللاتينية ضد قوى التقدم واليسار المقاوم لسياسات ولمحاولات بسط هيمنة الولايات المتحدة على القارة اللاتينية قبل عقود من الزمن .

 

 لقد تم الحديث سابقا وخلال العشرين عاماً الماضية عن تصريحات تمثل رؤيتهم بالوصول لذلك وفي رسم خرائط جديدة لمنطقتنا من هذا العالم بما في ذلك من مشاريع نقل السكان والتهجير وتغيير الديموغرافيا بما يحقق حدود جيوسياسية جديدة ، بل وتم الحديث ايضا عن خلق دول جديدة والغاء قائمة .

لذلك فإن المشاركة الأميركية العميقة والمباشرة اليوم امتدادا لما سبق لها بالمنطقة هي دلالة على أن عدوان الإبادة الجاري الاَن ليس حدثاً معزولاً عن ما يجري أو ما يخطط له باجزاء اخرى من العالم والمنطقة لإنجاز ما تضمنته رؤيتهم بالولايات المتحدة وناتو الغرب من نظرية "الفوضى المنظمة" وصولا إلى مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" مرورا بمخطط ما سمي "بالربيع العربي" و "اتفاقيات ابراهام"  ، ذلك المفهوم الذي يفترض ان يُسقط الفكر المقاوم ومحاولات تحدي الهيمنة والتفوق الغربي بما فيه من دور لأسرائيل . وهو ما يحقق ايضا شكل متجدد من منافسة وتحدي القوى الصاعدة وتحديدا الصين وروسيا لمسار تغيير النظام الدولي القائم نحو نظام اكثر عدالة وأقل هيمنةً ، ويلخص الأفكار المتجددة لتراث الغرب الأستعماري في تحقيق مصالحهم . 

 

لعقود من الزمن نظرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة والدولة العميقة فيها إلى الشرق الأوسط باعتباره بؤرة للصراع وعدم الأستقرار ، وهو مكان من وجهة نظرهم يحتاج إلى وجود أمريكي للحفاظ إلى حد كبير على تحقيق مصالح تدفق النفط والغاز والهيمنة الاقتصادية وتفوق دولة الاحتلال بما يحقق استمرار الهدف من وجودها الأستعماري والوظيفي السياسي والأمني . ولذلك فقد عملوا على ادارة الصراع دون حله كما اجهضوا تحقيق اقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وفق حدود ٤ حزيران ١٩٦٧ سنداً للخيار الأممي لمبدأ حل الدولتين الذي باتوا يتحدثون عنه الآن دون تفاصيل أو حدود ليكون بذلك سراباً جديدا يضاف الى سياساتهم الكلاسيكية المعتادة بحق الشعوب وحرياتها ، خاصة بعد ان اقترب هذا الحل من مفهوم اليوتوبيا غير القابل للتحقق بحكم الوقائع على الارض بفعل الاستيطان والضم  . هذا الموقف يستمر بغض النظر عما يجري من معارضة واسعة ومتزايدة في اوساط الرأي العام بالولايات المتحدة لسياسات ادارتهم والبيت الابيض التي تهدف لمنع تتفيذ حق تقرير المصير لشعبنا على ارضه واقتصار هذا الحق على ما سُمي بالشعب اليهودي الذي ينتمي لقوميات اثنية مختلفة اساسا . 

 

وفي اطار هذا المفهوم الأوسع ، فقد وجدت إسرائيل نفسها امام فرصة تسريع تنفيذ ذلك كما وأجندة حكومة التحالف الصهيوني القومي الديني من ما يسمى بمخطط "الحسم المبكر" القائم على رؤية يشوع بن نون التوراتية والجانب العنصري من الفكر الصهيوني . كما وصرف نظر الرأي العام عن الانقسام الداخلي فيها الذي ابتدا مع بدايات العام ٢٠٢٣ وفق الانقلاب القضائي الذي اعتبره جزء كبير منهم تهديدا "للديمقراطية اليهودية" والذي آثار ايضا تحفظات بعض القوى الدولية الحليفة لهم . 

 

ان التعديل الإقليمي المفترض تنفيذه من وجهة نظرهم بنتائج عدوان الإبادة الجماعية والتدمير الشامل لغزة وما يجري بالضفة بما فيها القدس وصولاً للترحيل القسري أو الطوعي لا فرق الذي يواجهه شعبنا بصموده  ، ويرتبط من جهة اخرى بالرؤية العامة بشكل وثيق بالمشاريع الأمريكية الضخمة مثل "ممر الهند والشرق الأوسط" وهي مبادرة طريق بايدن لتعزيز الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا والخليج العربي عبر ميناء حيفا إلى أوروبا ، كما ايضا "قناة بن غوريون" لتكون بديلا عن قناة السويس ، كما ايضا الأطماع في حقل الغاز بالمياة الفلسطينية قبالة شاطئ غزة ، وحسم مسألة حقل الغاز مقابل السواحل اللبنانية بتدمير ما تبقى من اسس الدولة اللبنانية ، إضافة إلى محاولة تخفيض مخاطر وجود أغلبية غير يهودية ما بين البحر والنهر بفلسطين التاريخية لخدمة رؤية يهودية الدولة ونقائها العنصري .

 

لذلك فان اصرارهم بشراكة الولايات المتحدة على الأستمرار بجريمة العدوان وحرب الإبادة من خلال رفض مبادرات وقف اطلاق النار وتوفير كل ما يلزم من وسائل الحرب والتدمير الذي لم يسبق له مثيل بهدف الاستمرار بجريمة الابادة ، يعكس رغباتهم في أن تكون غزة هي البداية لمزيد من الحروب القادمة وتوسعاتها بالمنطقة لخدمة اهدافهم تلك ، الأمر الذي يحاولون تنفيذه على الحدود اللبنانية بحق المقاومة فيها وبداخل سوريا وفي باب المندب ايضا ، وهو أمر يتطلب استمرار ترويض واخضاع قوى ودول بالأقليم للسياسات الأمريكية من خلال الترغيب والتهديد ، وإطلاق مبادرات من هنا وهنالك الآن تتعاطى مع مسار الحرب الاجرامية بما يحفظ لهم ماء وجههم بعد ارتفاع تكلفة عدوانهم و احتلالهم بشكل غير مسبوق بالأرواح ومناحي القطاع الاقتصادي والمالي ، مما يدفع اليوم الأوضاع الداخلية بدولة الأحتلال إلى تفاقم الخلافات فيها على المستويات الأمنية والسياسية كما في اوساط من مجتمعهم اليهودي المحلي والعالمي الذي بدأ بطرح أسئلة حول جدوى حربهم وخسائرهم اليومية المتزايدة دون تحقيق اهدافهم التي أُعلن عنها ، كما والتلويح بمسوؤلية نتنياهو وعدم قدرته ، خاصة وانه يدرك بأن المضي في صفقة تبادل الأسرى أو/ و نهاية حربه تلك ستؤدي لخلخلة تحالفه او إلى نهاية حياته السياسية وامكان محاسبته أمام القضاء مع اخرين من القيادات الأمنية والعسكرية والدفع باتجاه متغيرات بالنظام السياسي وحتى حول مستقبل الحركة الصهيونية  . 

 

لكن هناك فرق شاسع بين ما يرغب به المُخطِط  الإسرائيلي وبين ما يستطيع تحقيقه، وعبر التجربة التاريخية، فهناك حالة تدافع ، حيث إن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته عطَّلت وأفشلت الكثير من المخططات والبرامج الإسرائيلية ، بما في ذلك من مشاريع للتهجير عبر مسيرة ثورتنا الفلسطينية وكفاح حركتها الوطنية .

 

من جانب آخر والمتعلق بنا نحن ، فأنني أعتقد كما الكثيرين ، بأن تعاطي الموقف الرسمي الفلسطيني كان يجب أن يكون مختلفاً بما توجب ارتقائه بشكل فعال الى حجم المعاناة والألم وبمخطط الجريمة المتجددة وأشكال مقاومتها ومواجهتها ، ومرتبطاً بواقع تصاعد التضامن الدولي وافتضاح الصورة الحقيقية لدولة الأحتلال والأبرتهايد والأستفادة من ذلك والبناء عليه بتنفيذ كافة مقررات المجالس الوطنية والمركزية لمنظمة التحرير بعد أن أعلنت دولة الاحتلال نفسها في حِل من الاتفاقيات السابقة وتحديدا أوسلو  ، كما وسرعة المتغيرات الدولية ومنها ما له علاقة بالرأي العام الدولي الذي يتوجب التواصل مع مؤثراته من قوى تقدمية باوروبا وامريكيا . اضافة الى منحى الراي العام المحلي بالوطن الذي اوضحه استطلاع رأي جرى مؤخراً ، وتوجب فهم نبض الشارع الذي لا يمكن أن تتوفر عوامل النجاح لأي خطة مستقبلية لنا دون الأنتباه له .

 

لذلك هنالك ضرورة قصوى تقتضي طرح رؤية واَليات لها علاقة بالوقائع المذكورة وبالمخرج من ما وَصلنا له على اثر غياب المراجعة والتقييم او في تغييب مضمون واَليات مرحلة التحرر الوطني في الفترة الاخيرة من خلال التعاطي مع مشاريع السراب الامريكي حول الأمن والاقتصاد ، وغياب حق وواجب ابناء شعبنا بالانتخابات التشريعية والرئاسية منذ سبعة عشر عاما ، كما ايضا غياب الأنتخابات الفعلية لمؤسسات منظمة التحرير والتي غيبت ايضا مبدأ فصل السلطات .

 

الآن هنالك فرصة كبيرة لتفعيل نظامنا السياسي  بما يخدم مصالحنا الوطنية وقضايا شعبنا خاصة أمام التحديات القائمة . فرصة باعتقادي انها اصبحت ممكنة دون جلسات حوار مكوكية التي لم نصل بها سابقا لانهاء الانقسام الذي نتج عن الانقلاب في غزة . بل هي اليوم نتاج التحديات القائمة وتضحيات شعبنا الكبيرة وشعور كافة الأطراف بمن فيهم من قوى خارج منظمة التحرير بذلك وباهمية القرار المستقل والبوصلة الوطنية والوحدة على اساس برنامج سياسي مقاوم يحقق استكمال مرحلة التحرر من الأحتلال الاستيطاني واسقاط مشاريعة كافة ، خاصة بعد 

 تصريحات صادرة عن قادة حماس التي اعتقد بضرورة النظر لها اليوم بعيون جديدة لا تقوم على سابق مواقفها بالرغم من خلافات واسعة معها سابقا . اضافة الى مواقف تنظيمات المقاومة في غزة بما يتعلق برؤيتهم لخطورة المرحلة السياسية واستحقاقات الشرعية الدولية والقانون الدولي إضافة إلى فهمهم المعلن حديثا لدور السلطة الوطنية كمعبر إلى الدولة المستقلة الديمقراطية ذات السيادة وعاصمتها القدس ،  الذي أعلنت حماس بأنها ستحمله معها إلى مصر في نقاش المبادرة المطروحة ، وهو موقف يندرج ايضا في إطار هذا الفهم المتغير للمرحلة القادمة . وهو ما يتوجب البناء عليه فورا بتوسيع عضوية منظمة التحرير الآن لتتسع للكل الفلسطيني بمن فيهم من فصائل العمل الوطني من خارج المنظمة ، المستقلين الوطنين والمجتمع المدني والشباب وتفعيل دورها المطلوب للخروج بقاعدة توافقية تمثل رؤية وطنية شاملة كمبادرة فلسطينية خالصة تستند رفض ما يسمى "بخطة اليوم التالي في غزة" والى الوحدة السياسية والجغرافية والتاريخية لكافة اراضي دولة فلسطين التي يجب الإعلان عنها دولة تحت الأحتلال سنداً لمكانتها في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام ٢٠١٢. مبادرة فلسطينية ترتكز على دعم مقاومة شعبنا بكافة الاشكال والمواجهة السياسية لمشاريع الأحتلال والنجاح في وقف العدوان وحماية شعبنا ، على طريق فتح افق سياسي برعاية دولية بمشاركة الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا وغيرها من الدول المعنية ، يُفضي الى الحرية والاستقلال الوطني دون تجزئة الحلول ، ولقطع الطريق على العبث الأمريكي تحت عناوين مختلفة بالشأن الفلسطيني وبمكانة منظمة التحرير كبيت جامع وعنوان للتحرر الوطني الديمقراطي.

 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.