غاضبون على المفارق
مقالات

غاضبون على المفارق

كانت تكبرني بعشرين عاماً، كنتُ من مجانين السبعينيات، طفل حجارة شرس، مهنتي مع أصحابي ليل نهار انتظار الباصات الإسرائيلية في شارع الأمراء برام الله وتحطيم زجاجها بالحجارة، كنت غارقاً في حبَّين: حب الوطن، وحب بنت حلوة جداً، كنت أريد أن أكبر بسرعة لأحبها أكثر وأحرر فلسطين، كان ثمن عناقها لي متاحاً جداً، لكن ثمنه خطير جداً، حجر واحد فقط أكسر به لوح زجاج من نوافذ حافلة (شركة «إيغد» الإسرائيلية)، ثم هارباً أترك جسدي الصغير يسقط في بيت درج ملاصق تماماً لشارع حلويات الأمراء برام الله، وكأنه حلم، أجد روحي أمام بيتها، لبضع دقائق نحيلات القوام، أغسل دقات قلبي بوجهها المتلهف المبهور الخائف المتضامن المحب، كان السائق الغاضب الذي كان يطاردني للمرة الثلاثين حتى يقبض على خوفي في نفس المكان، يبتسم بغضب في وجهي وهو يخرجني جاراً إياي من سري المختبئ في بيت الدرج ومن يديها، هل كان يعرف أن شظايا زجاجه هي ذريعتي المحكمة لرؤيتي لها ستة أيام متواصلات في الأسبوع؟ كنت في منتصف السبعينيات، طفلاً كارهاً للحافلة الغريبة في شوارع بلادي ومحتاجاً لها لسبب شخصي جداً، ولم يكن أحد يعرف إلا الله والسائق (ربما) وأنا، أن يوم السبت كان أسوأ أيامي. ولم أفهم جنون السائق حين أوقف الحافلة بعد ابتسامته فيها فجأة، وطاردني بكامل الغضب والفضول والخطوات.
كانت تحضنني بقوة غضبها أمام بيتها، تشتم السائق وتهدده إن اقترب مني أكثر، وكانت تصيح فيه بكلام كبير لم أفهم مجازه الرائع إلا فيما بعد: (شو يعني كسر زجاج نافذة؟!، مهو انتو كسرتوا وطن كامل يا مجرم). ما زلت أشعر بحرارة نهديها وهما ينغلقان على لهاثي الصغير، والسائق سميناً، متعرقاً وصامتاً ينقل طرفه بين رعبي السعيد وغضبها، ثم وبابتسامة صغيرة حائرة بين الغضب والتعاطف تاركاً إياي ليديها، يصعد درج بيتها مغادراً لحافلته المليئة بشظايا ذريعتي يلملمها بملل ثم يواصل طريقه عبر مطر متصل من حجارة أطفال فلسطينيين آخرين (هل كانوا عشاقاً أيضاً مثلي؟ ربما) غاضبين ينتظرونه على المفارق.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.