
السلام بالقوّة في ظلّ الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة: أين المعنى من هذه المواجهة؟
إنْ صدّقنا إسرائيل أنّها تقصف طهران لرسم الشرق الأوسط الجديد على المستوى الجغرافيّ، فعلينا سواء اتفقنا أو اختلفنا مع إيران، أن نعي أنّها تردّ في تل ابيب لتمنع المعنى من الانهيار الفاضح على المستوى الأخلاقيّ قبل التاريخيّ. ذلك لأنّ السؤال الأهمّ لا يتعلّق فقط بما يحدث ميدانيًّا، بل بما يمكن أن تُحدثه هذه المواجهة على مستوى الفكرة، وعلى مستوى المعنى؛ فكرة الصراع الجيوسياسيّ، ومعنى الأحقيّة والتشريع؛ فالمواجهة بين طهران وتل أبيب ليست مجرّد نزاع بين عاصمتين، بل هي تجلّ حادّ لصراع أوسع، صراع على تصوّر الإقليم، وعلى سرديّته، وعلى من يمتلك حقّ إعادة تعريف المعادلة الجيوسياسيّة.
ما يعني أنّ التصعيد المستمر بين إسرائيل وإيران، والضربات العسكريّة المتبادلة التي خرجت مؤخراً من فكرة حروب الظلّ الباردة، إلى علن السياسات الساخنة، يدفعُنا لطرحِ الأسئلة الأشدّ إلحاحًا: ما هي حدود الشرعيّة؟ ومن يملك حقّ الفعل على المستوى الجغرافيّ أو التاريخيّ لهذا الشرق؟ وأين هو دور النظام الدوليّ الذي يدّعي أنّه يقوم على مفاهيم القيم والقانون؟
ففي خضمّ مثل هذه الحرب المتدحرجة، يبرز عامل القوى الكبرى كعنصر حاسم في صياغة مسارات الاشتباك، والحديث هنا عن الولايات المتّحدة، باعتبارها زعيمة العالم "الحرّ" القادرة على منع التدهور، وهي المفاوض للطرف الإيرانيّ، والحليف التاريخيّ والداعم المركزيّ للدولة الإسرائيليّة. هذه الزعيمة المفترضة لم تكتف بدور المراقب - على الأقلّ في الظاهر- وإنّما تورطت علنًا في توفير الغطاء السياسيّ والعسكريّ اللوجستيّ لهذا الاعتداء الإسرائيليّ، بل وذهبت تبارك أهدافه ضمن رواية "الدفاع عن النفس". وهكذا، لم يعد الدعم الأمريكيّ المعلن لإسرائيل، مجرّد انحياز جيوسياسيّ، بل موقفًا يعيد تشكيل المعايير الأخلاقيّة والسياسيّة للقوى الكبرى على السّاحة الدوليّة.
دعمٌ بلا قيود... وردعٌ بلا حدود
منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية وسياسات المركز الغربيّ وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأمريكيّة تجاه الشرق الأوسط ، تقوم على معادلة أساسيّة تفضي إلى تثبيت التفوّق الإسرائيليّ مهما كانت الظروف، وبصرف النظر عن السلوك، ولكن في المواجهة مع إيران، ارتفعت هذه المعادلة إلى مستوى مختلف أشدّ خطورة وكلفة، فدعم الغرب - الذي عادة ما يرفع شعارات حماية المدنيّين، واحترام القانون الدوليّ الإنسانيّ - لإسرائيل في ضرب منشآت في قلب طهران، سواء كانت ضدّ مواقع عسكريّة أو مدنيّة ضمن بنى تحتيّة مأهولة؛ ودعوة ترامب للمدنيّين الإيرانيّين إلى الإخلاء علنًا، كما دعا أهل غزّة، لا يمكن فهمه إلا كتحوّل في تعريف القانون الدوليّ الإنسانيّ، وماهية شروط "الردع المشروع"، الذي تحوّل بشكل فاضح ليصبح غطاءً لسياسة هجوميّة همجيّة تحت عنوان الردع الاستباقي وفق القاموس الغربيّ، وهو ما كان ولا يزال يحدث في كامل الأراضي الفلسطينيّة. ما يعني أنّ منطق الحروب التي تخوضها إسرائيل بدعم غربيّ، لم يعد منطق الحروب التقليديّة بالمعنى المعروف للحروب، وإنّما هي مواجهات تدار بعُرفِ "التوحّش الممنهج" الذي يُخاض في صمتٍ أخلاقيّ دوليّ منذ لحظة العدوان الأولى على غزّة، إن لم نقل، التواطؤ سياسيًّا وأخلاقيًّا.
الإنسان خارج الحسابات
المفارقة الأكبر أنّ الإنسان في هذه المواجهة، كما في غزّة من قبل، قد أُخرِجَ بالكامل من دائرة الاهتمام، فالحديث عن الضحايا المدنيّين، أو عن خطر الانفجار الإقليميّ، بات تفصيلاً ثانويًّا أمام منطق التسويات الكبرى، إذ لم نعد نسمع عن مبادرات لحماية المدنيّين، أو وقف لإطلاق النار، ولكنّ كلّ ما نسمعه هو: هل ردّت إيران؟ هل تجاوز هذا الطرف أو ذاك ما يسمى بالخطوط الحمراء؟ بهذا المعنى، تصبح الحرب اختبارًا قاسيًا للقيم: هل ما زالت الإنسانيّة تعني شيئًا للمنظومة الدوليّة؟ أم أنّ معايير الفعل وردّ الفعل قد باتت تُفَصّل حسب مقاييس من يملك التفوق العسكري المدمّر؟
من شرعيّة الفعل إلى شريعة التبرير
ولأنّ الشرعيّة في لحظات الحروب الكبرى، لا تُختبر في التصريحات الإعلاميّة، وإنّما في المواقف السياسيّة، فمن الواضح أنّ القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، باتت تنتقل من سؤال الشرعيّة إلى سؤال التشريع: من سؤال: هل ما تفعله إسرائيل شرعيّ؟ إلى سؤال: كيف يمكننا تبريره؟ هذا التحوّل في المفاهيم يعدّ الأخطر على الإطلاق، ببساطة لأنّ الشرعيّة لم تعد تُبنى على المبادئ، بل على التشريع في ظلّ موازين القوّة.
في هذا السياق، يُعاد تعريف القانون الدوليّ الإنسانيّ بشكل متدرّج، عبر سلوك يوميّ متكرّر، فإنّ صمت العالم عن هذا التعريف الجديد في غزّة، باستخدام ادعاءات الدفاع عن النفس كغطاء للترهيب، شَرْعَنَ السلوك ضمنيًا، وهو ما جعله يتكرّر في طهران اليوم، وسيتكرّر في أماكن أخرى قريباً، ليصبح هو القاعدة لا الاستثناء.
الرّهان على وعي الشعوب لا على توازن الدول
ربّما لم يعد ممكنًا الرهان على موقف أخلاقيّ من قوى كبرى متورّطة حتّى الأعماق في لعبة المصالح؛ لكنّ الرّهان الحقيقيّ اليوم، كما تؤكّد التجارب من فلسطين إلى إيران، هو على وعي الشعوب، وحركات التضامن، والمجتمع المدنيّ العالميّ، الذي بدأ بالفعل في التعبير عن رفضه للازدواجيّة، وإن فعل ذلك ببطء شديد قد لا يكون مؤثّراً في اللحظة الراهنة.
فإنّ الطلاب الذين احتجّوا في الجامعات الأميركيّة على دعم إسرائيل، والمنصّات الحقوقيّة التي تفضح جرائمها وتلاحقها في أوروبا، والنقاشات الاجتماعيّة المتزايدة حول العالم عن مدى التورّط في تسليح إسرائيل وأخلاقيّاته؛ كلّها مؤشّرات أنّ المعركة لم تُحسم بعد، ولكنّها في المقابل لا تعني أنّها ستُحسم قريباً لصالح الجانب الأصوب من التاريخ.
ختامًا: المعركة على المعنى قبل الأرض
المواجهة بين إسرائيل وإيران ليست فقط معركة جيوسياسيّة، بل هي معركة على المعنى. فحين تُختطف مفاهيم مثل الأمن والردع والسلام وتُستخدم لتبرير العنف والتوحّش وتغييب الإنسان، نكون أمام انقلاب عميق في منظومة القيم؛ وهنا، يصبح دورنا ككتّاب ومثقفّين وإعلاميّين، هو أن نعيد للمعنى وزنه واعتباره، وأن نُذكّر بأنّ أيّ تفوّق لا يُقاس فقط بما يُدمر، بل أيضًا بما يُحتقر من مبادئ. فإن كان ثمّة ما يُنتظر من العالم اليوم، فهو العمل على إثبات أنّ القانون الدوليّ، إنّما أقرب للمساواة بين الشعوب والدول، لا بوصفه أداة في يد القوى الدوليّة، وأنّ الأخلاق لا تتغيّر حسب مكان الانفجار ولون الضحيّة؛ أمّا إن سقط ذلك الرهان، فلا يبقى لنا إلّا أن نكتب ونوثّق ونفضح، لعلّ ذلك يبني وعيًا جديدًا لأجيال لم تُهزم بعد حتى ولو فُرض السلام بالسلاح وغُيّبَ المعنى بالقوّة.