
فلسطين... كسر السردية العالمية
من يتابع التحولات الكبرى في العلاقات الدولية وتوازنات القوة بين العواصم الكبرى، من واشنطن إلى بكين فموسكو، يدرك أن العالم يعيد التموقع على أسس تستلهم نظريات صُنّاع الحرب والاستراتيجية مثل كارل فون كلوزفيتز وسون تزو. في المقابل، تبدو أطروحات المفكر الأميركي الراحل جوزيف ناي، واضع نظرية "القوة الناعمة"، وكأنها تواجه اختبارًا قاسيًا في زمن انكشاف القيم الليبرالية وانهيار النظم الأخلاقية للدبلوماسية الغربية. والقضية الفلسطينية، في قلب هذا المشهد، لم تعد فقط ضحية سلاح أو قرار سياسي، بل ضحية خيانة عالمية لأبسط مفاهيم العدالة الإنسانية.
جوزيف ناي، صاحب "القوة الناعمة" و"ملزمون بالقيادة"، لطالما حذّر من تقليص القوة إلى الإكراه والهيمنة العسكرية. رأى أن النفوذ العالمي لا يصنعه السلاح وحده، بل القدرة على الإقناع، على الإلهام، على إنتاج المعنى. القوة الناعمة عنده هي أن تُحبَّ لا أن تُخشى. ولكن، ماذا تبقّى من هذه القوة الناعمة الأميركية عندما نتأمل الموقف من فلسطين؟ لا شيء سوى رماد الخطاب وفضيحة الصمت.
لقد كتب ناي في ذروة عهد ترامب أن رجل العقارات اختزل السلطة في الصفقات والإكراه، متجاهلاً عناصر الجاذبية الأميركية التي صنعت حضورها العالمي. لكن الواقع أن الانهيار لم يبدأ مع ترامب ولن ينتهي برحيله. فالموقف الأميركي من العدوان الإسرائيلي المستمر، من المجازر في غزة، من الحصار والتجويع والتهجير، كشف أن القوة الناعمة كانت دومًا أداة براقة لتجميل القبح الإمبراطوري. الدعم الأعمى للاحتلال، والفيتو الدائم ضد أي إدانة، ومليارات الأسلحة المغمّسة بدماء الأطفال الفلسطينيين، كل هذا أسقط ورقة التوت عن أخلاق النظام العالمي.
ليست فلسطين فقط قضية تحرر وطني، بل مرآة لعطب العالم. إن ازدواجية المعايير، ودهس القانون الدولي، وتحويل الضحية إلى متّهم، جعل من فلسطين "فضيحة أخلاقية" بامتياز. هل يُعقل أن يُبرَّر قتل 30 ألف مدني، نصفهم أطفال، بأنه "دفاع عن النفس"؟! هل يُعقل أن يُمنع دخول الغذاء والدواء لمليونَي إنسان، ثم يُطلب من العالم أن يصمت احترامًا لـ"حق الاحتلال"؟! لقد انتحرت القوة الناعمة الأميركية على أبواب غزة.
ومع هذا السقوط المدوي للأخلاق الرسمية، برزت معركة أخرى لا تقل ضراوة: معركة السردية. إسرائيل لم تكن فقط تحتل الأرض، بل تحتكر الرواية. لكن في العقد الأخير، ومع تصاعد وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ الفلسطينيون ينتزعون حقهم في الحكي. لم تعد القضية حبيسة بيانات فصائلية أو خطابات رسمية، بل أصبحت حكايات يومية تُروى من تحت الأنقاض، من غرف العناية المركزة، من قبور الأطفال.
هذه الرواية الجديدة، التي يشارك في صناعتها الصحفيون، الفنانون، الأسرى، وحتى الأمهات الثكالى، أصبحت شكلًا من أشكال المقاومة. وهنا تكمن بذور "قوة ناعمة فلسطينية" تتنامى بهدوء لكنها تهزّ الصورة الإسرائيلية عالميًا. والدليل؟ تصاعد حملات المقاطعة، الانقسام في الجامعات الغربية، وتزايد الأصوات اليهودية الرافضة للاحتلال.
نعم، وبقوة. لا تملك فلسطين ترسانة عسكرية ولا شبكة علاقات دولية مؤثرة، لكنها تملك أداة فتاكة: الحقيقة. ومن يمتلك الحقيقة يمكنه أن يخلق تأثيرًا يتجاوز الحدود. لكن ذلك يحتاج إلى وعي إستراتيجي: استثمار في الثقافة، الإعلام، التعليم، والفن، وتنسيق مع الحركات التضامنية عالميًا. القوة الناعمة لا تُصنَع بالعفوية، بل بالتصميم والإرادة.
كتب جوزيف ناي أن العالم بعد الأزمات الكبرى لا يعود كما كان. وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد أفرزت "الصفقة الجديدة"، فإن حرب الإبادة الجارية في غزة قد تفرز ملامح نظام عالمي جديد، إذا ما امتلكت الشعوب الإرادة لفرض سرديتها. نحن اليوم أمام لحظة تاريخية: إما أن نكون شعبًا يُحرّر روايته، أو نبقى حطامًا في هامش تاريخ يكتبه الآخرون.
إن فلسطين، رغم الدم والخذلان، تملك ما لا تملكه إسرائيل: الشرعية، والحق، والضمير الإنساني؛ وهذه، في عالم مضطرب، هي القوة الناعمة الحقيقية.

بين التطبيع وقلب الموازين: العرب في امتحان المصير الفلسطيني

"في غزة لا يوجد تعليم... لم يبقَ أطفال"

ورقة وتكوف: مبادرة كتبتها تل أبيب وقرأتها علينا واشنطن بصوت دبلوماسي

من وحي الذاكرة.. عقد من التلمذة في القدس: وصفة أمير القدس السحرية في العمل

لماذا على حماس الموافقة على مقترح ويتكوف؟

منع إسرائيل لتطعيم شلل الأطفال في الأراضي الفلسطينية: جريمة صحية وتهديد وجودي

الرئيس أبو مازن و (استراتيجية الضعيف)
