
التنوع في مجالس الإدارة: خيار الماضي وضرورة الحاضر والمستقبل
صدى نيوز - لطالما كانت مجالس الإدارة قديماً بمثابة صورة تعكس السلطة والنفوذ، ففي معظم الأحيان كان اختيار أعضاء المجالس يتم بناءً على علاقات شخصية أو مكانة اجتماعية دون الأخذ بعين الاعتبار معيار التنوع والشمول والتمثيل القطاعي الذي يعكس احتياجات ومتطلبات المؤسسات.
ومع دخولنا عصراً جديداً مزروعاً ببذور التحديات والتحولات السريعة المتلاحقة في شتى المجالات، بدأ المشهد يتغير تدريجياً وبدأت المؤسسات تدرك أنه لم يعد من الممكن أن تدار بعقلية واحدة أو بأساليب فكرية مستنسخة، ولم يعد كافياً أن تضم المجالس أسماء لامعة أو شخصيات اعتبارية، ولم يعد تنوع مجالس الإدارة خياراً، بل ضرورة استراتيجية تُمليها معايير الاستمرارية والاستدامة و التنافسية والحوكمة وتوقعات أصحاب المصالح، ومع ذلك لا تزال العديد من المؤسسات الأخرى تفتقر إلى التنوع والشمول في مجالس إدارتها.
وهنا تبرز عدة تساؤلات مهمة: ما المقصود بالتنوع في مجالس الإدارة؟ ولماذا يُعد التنوع عاملاً حاسماً وضرورياً في مواجهة التحديات المعاصرة؟ وما الآثار السلبية التي تترتب على غياب التنوع وتكرار العقليات المتشابهة داخل المجالس؟ وما أبرز العوائق التي تقف أمام تحقيق التنوع في المجالس؟
هذه التساؤلات تدفعنا إلى نقاش أعمق حول ضرورة إحداث تحول جذري في تشكيل مجالس الإدارة، انطلاقاً من وعي وضرورة استراتيجية بأهمية التنوع والانفتاح على الأفكار الجديدة.
حين نشير إلى التنوع في مجالس الإدارة، فإن ذلك يعني وجود تشكيلة متوازنة من الأعضاء الذين يتنوعون في الخلفيات الثقافية والمعرفية والعلمية، والخبرات العملية، والفئات العمرية، والعرقيات، والنوع الاجتماعي. وقد أظهرت نتائج دراسة أجرتها شركة "McKinsey" عام 2020 أن المؤسسات ذات المجالس المتنوعة تحقق أرباحا أعلى بنسبة 25% مقارنة بغيرها، كما أظهرت نتائج تقرير تمَّ نشره في مجلة “Harvard Business Review” عام 2019 أن المجالس المتنوعة تحقق نتائج أفضل في الابتكار بنسبة تصل إلى 35% مقارنة بغيرها.
يتغير العالم اليوم بسرعة كبيرة، ويواجه تحديات متعددة؛ منها التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والجيوسياسية، وتطور توقعات أصحاب المصالح وغيرها الكثير. هذه التحديات تتطلب تفكيراً استراتيجياً عميقاً ومتعدد الزوايا، وهو ما لا يمكن تحقيقه بوجود مجلس لا يتصف بالتنوع والشمول الذي يمنحه قدرة أكبر على الإبداع، والتحليل النقدي البناء، واتخاذ قرارات تتماشى مع الواقع وخلق بيئة تزدهر فيها الحلول المبتكرة، والقدرة على التنبؤ بالمخاطر ورصد التحذيرات المبكرة وتطوير استراتيجيات فعالة وقدرة أفضل على فهم احتياجات أصحاب المصالح عبر القطاعات الاقتصادية المختلفة وتحقيق أداء مالي أفضل وغيرها الكثير من المنافع التي يجلبها التنوع على طاولة الاجتماعات.
أما عندما يسود النمط الواحد داخل مجالس الإدارة أو ما يسمى بالتفكير الجماعي فذلك يقود المجالس إلى الجمود في التفكير ومحدودية القدرة على التنبؤ بالمخاطر وكيفية التعامل معها وضعف تمثيل القطاعات الاقتصادية المختلفة وفقدان المصداقية والثقة والمرونة في التفاعل مع أصحاب المصالح. وقد أظهرت نتائج دراسة أجرتها جامعة ستانفورد حديثاً أن المجالس ذات التركيب المتجانس تميل لاتخاذ قرارات عالية المخاطر بنسبة أكبر تصل إلى 28% في ظل غياب وجهات النظر المختلفة.
رغم أن العديد من المؤسسات تدرك أهمية التنوع، إلا أن هناك تحديات تقف عائقاً أمام تحقيقه، ومن أبرزها الثقافة المؤسسية المغلقة التي تفضل التكرار خوفاً من التجديد الذي يعتبر تهديداً لوحدة القرار، أو غياب السياسات والقوانين الملزمة، أو محدودية قاعدة الكفاءات المؤهلة أو محدودية الفرص المتاحة للنساء والشباب للمشاركة في مواقع صنع القرار. ولهذه الأسباب، غابت وجهات النظر المختلفة، وتكررت الأخطاء ذاتها، وواجهت المؤسسات صعوبة في مواكبة التغيرات المتسارعة.
في الختام، إن التحديات التي تواجه المؤسسات اليوم لا يمكن مواجهتها والتصدي لها بعقلية الأمس أو بمجالس إدارة تفتقر إلى التنوع الحقيقي، فالتنوع في المجالس لم يعد مجرد التزام وإجراء قانوني، بل أصبح استحقاقاً استراتيجياً تمليه متطلبات العصر الحديث، لتعزيز فاعلية الحوكمة، وضمان استدامة الأداء، وتحقيق التكيف الذي يتماشى مع تحديات الحاضر والمستقبل.
إن بناء مجالس إدارة تعكس هذا التنوع هو خطوة أساسية نحو مستقبل أكثر استدامة وابتكاراً ومرونة لأي مؤسسة تطمح إلى البقاء والنمو في بيئة تنافسية لا ترحم. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بقناعة وإرادة، وسياسات وقوانين واضحة وملزمة، والتزام حقيقي بثقافة الشمول والانفتاح على التغيير واتاحة المجال لكل صوت أن يُسمع، ولكل رأي أن يُناقش بجدية. فكل عضو بات يُنظر إليه كصوت مستقل ورؤية تكمّل الصورة، لا مجرد رقم على طاولة الاجتماعات، فمجالس الإدارة بمثابة العقل الذي يوجه والبوصلة التي تحدد الاتجاه الاستراتيجي للمؤسسة نحو تحقيق رؤيتها وأهدافها.

فلسطين... كسر السردية العالمية

لماذا على حماس الموافقة على مقترح ويتكوف؟

منع إسرائيل لتطعيم شلل الأطفال في الأراضي الفلسطينية: جريمة صحية وتهديد وجودي

الرئيس أبو مازن و (استراتيجية الضعيف)

حين تُمنع الكاميرا… تُستباح الحقيقة

مسار اخر للسلام العادل ممكن!

كيف مرّت 600 يوم على الإبادة؟
