حروب العشرية الثالثة (31)
مقالات

حروب العشرية الثالثة (31)

خلصنا في معالجة سبقت إلى إمكانية تفسير ما حدث ويحدث في غزة والضفة الغربية، ولبنان، وسورية، منذ اندلاع الحرب، على خلفية محاولة لإنشاء نظام جديد للأمن الإقليمي.

وأشرنا إلى أن القوى المعنية بإنشاء النظام تبدو في عجلة من أمرها، ولا تهتم بتقديم مسوّغات سياسية أو أيديولوجية لتبريره، فالقوة وحدها، معطوفة على الإكراه، هي ما يفسر ويبرر النظام الجديد.
وشاءت الصدف أن يُضفي تقرير نشرته الإيكونوميست البريطانية، بعد أيام قليلة، بعنوان «الخاسرون في الشرق الأوسط الجديد» مزيداً من الصدقية على فرضيتنا تلك.

ويبقى من واجبنا، الآن، أن نكسو هذا كله باللحم، أي أن نفسّره. الأمر الذي لن يتأتى دون الكلام عن «النظام القديم» وتشخيص ملامح الجديد، والخروج بحكم من نوع ما.

يأخذنا كل كلام محتمل عن النظام القديم إلى الثورة الإيرانية، فحتى اندلاع الثورة الإيرانية بيوم واحد كان الثلاثي الإيراني ـ الإسرائيلي ـ التركي محور التصوّرات الأمنية والاستراتيجية، والسياسة الدفاعية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وفي القلب منها حماية مصادر الطاقة، وضمان أمن إسرائيل، وحراسة طرق الملاحة الدولية والأسواق.

ورغم أن دبلوماسية كيسنجر بعد حرب 1973، رأت في الانقلاب الساداتي، الذي انتهى بمعاهدة للصلح مع إسرائيل، غنيمة هائلة من غنائم الحرب الباردة، إلا أن الرهان على مصر كركيزة للأمن الإقليمي لم يتحول إلى أمر واقع إلا بعد انهيار نظام الشاه، وضياع الركيزة الإيرانية.

على أي حال، لم يختلف النظام الجديد عمّا سبقه من حيث المهام والمصالح، ولكنه كان مضطراً للتأقلم مع ما عُرف آنذاك بمبدأ نيكسون في الشرق الأوسط، الذي افترض مشاركة نشطة من جانب الركائز الإقليمية في السياسات الدفاعية.

ولم تكن الظروف قد توفرت بعد للتفكير في إنشاء تحالفات أمنية مشتركة بين العرب والإسرائيليين.
إجمالاً، يمكن تفسير حروب الثمانينيات، فرادى ومجتمعة، على خلفية النظام الجديد للأمن الإقليمي: الحرب العراقية ـ الإيرانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، واحتدام الحرب الأهلية في لبنان، وتتويج الهيمنة الأسدية عليه (بعد التدخل العسكري بموافقة أميركية ـ إسرائيلية في عام 1976) وما يدعى بالصحوة الإسلامية، التي موّلتها الإبراهيميات من عوائد النفط، وأرادت لها أن تكون غطاء أيديولوجيا للنظام الأمني الجديد.

وقد كانت حرباً على الحواضر العربية، لم تتضح معالمها إلا في وقت لاحق.

وما يعنينا، الآن، أن الغزو العراقي للكويت كشف نواقص هائلة في بنية نظام الأمن الإقليمي.
لذا، اضطر الأميركيون للتدخل عسكرياً، في حرب ستكون فاتحة لتقويض بلاد الشام، بجناحيها المصري والعراقي، في عقود لاحقة.

لم تتضح الأمور بهذه الطريقة في حينها، ولكن اتضح أن المسألة الفلسطينية عقبة تعترض تعاون الركائز الأساسية لنظام الأمن الإقليمي (مثلاً، كما يتجلى الآن في تدريبات ومناورات عسكرية يشارك فيها عرب وإسرائيليون) فكانت مفاوضات أوسلو هي الحل.

وفي السياق نفسه انتهت الحرب الأهلية اللبنانية، وصعد رجل الأعمال اللبناني ـ السعودي رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة في لبنان.

كان صعوده تتويجاً لظاهرة رجال الأعمال وتجّار السلاح، من أمثال عدنان خاشقجي، وأكرم عجة، الذين أنجبتهم الطفرة النفطية، ولعبوا دورا هائلاً من وراء الستار في بلدان عربية مختلفة.

كان صعود هؤلاء ترجمة لتزايد رغبة الأميركيين في منح مساحة أوسع للإبراهيميين في نظام الأمن الإقليمي، وفي تصوّر هؤلاء لصنع السياسة وممارسة النفوذ.

وعلاوة على هذا كله، وقع تطوران استراتيجيان هما انعطاف القوّة التركية نحو مجالها الحيوي في الشرق الأوسط، وتعافي القوّة الإيرانية من جراح الحرب مع العراق.

لذا، لم يعد من الممكن، من أواسط التسعينيات، قراءة ميزان القوى في الشرق الأوسط دون تركيا وإيران.

كان من الممكن للعشريتين الأولى والثانية، في القرن الحالي، أن تكونا ترجمة لتحوّلات ووقائع التسعينيات. ولكن ثلاثة أحداث راديكالية تماماً غيّرت الشرق الأوسط (هجمات 11 أيلول، والاحتلال الأميركي للعراق، واندلاع ثورات الربيع العربي) وقلبت كل شيء رأساً على عقب.

لسنا، هنا، بصدد تحليل الأحداث المذكورة، بل التذكير بحقيقة أنها برهنت مجتمعة على استحالة بقاء النظام الإقليمي القائم على حاله، وضرورة إنشاء نظام جديد.

والمُلاحظ في تشخيصنا لنظام جديد لم يتضح بعد، أن الأحداث الراديكالية، بما تعني من عمليات تأقلم، وحسابات وإعادة اصطفاف، أدت مجتمعة إلى استبعاد المسألة الفلسطينية كعقبة محتملة في النظام الجديد (طموح نتنياهو الرئيس) وأن مصر لم تعد، في نظر أميركا الترامبية على الأقل، ركيزة أساسية من ركائز النظام الإقليمي، وأن هذا الدور صار منوطاً بالإبراهيميين.

وقد خرج تحالف هؤلاء مع الإسرائيليين من دائرة الخيال، وصار على جدول الأعمال، وهم يترجمون مطالبة ركائز نظام الأمن الإقليمي الانخراط بفعالية في سياسات الدفاع والأمن (حسب مبدأ نيكسون) بالشراء والاستثمار في صناعة السلاح والسوق الأميركية. وعلاوة عليه، تبدو القوة الإسرائيلية، في نظرهم، مكافئاً موضوعياً للقوتين التركية والإيرانية، والمرشح الطبيعي لهندسة وزعامة النظام الإقليمي الجديد، بعد احتواء، وكسر شوكة القوتين.

لم يشخّص تقرير الإيكونوميست تحوّلات نظام الأمن الإقليمي، كما فعلنا، بل خلص إلى خروج طرف وصعود آخر. ولم يفسّر حروب العشريتين الأولى والثانية كحصاد مر لنظام للأمن الإقليمي هندسه كيسنجر، وفشلت معه عمليات الترميم.

ولا يبدو من السابق لأوانه القول إن حروب عشريات قادمة تبدو، من شرفة الحاضر، حصاداً مراً لنظام يتشكّل الآن. فاصل ونواصل.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.