الرواية الفلسطينية بالذكرى ٧٥ للنكبة في تكامل البندقية وغصن الزيتون
مقالات

الرواية الفلسطينية بالذكرى ٧٥ للنكبة في تكامل البندقية وغصن الزيتون

إن حلول الذكرى ٧٥ للنكبة الفلسطينية في الخامس عشر من أيار (مايو) إنما تنطوي على أحداث وتحولات كبيرة ما بين حصولها المأساوي عام ١٩٤٨ وإحياء الذكرى الخامسة والسبعين في هذا العام ٢٠٢٣.
في الخامس عشر من أيار (مايو) ١٩٤٨ حلت النكبة على رأس الشعب الفلسطيني كالقدر العاجل، فمن حكم وإدارة سلطة الانتداب البريطاني ومع نهاية يوم الرابع عشر من أيار (مايو) ١٩٤٨ إلى بداية يوم الخامس عشر من نفس الشهر والعام انتقل الشعب الفلسطيني من مالك لأرض فلسطين وصاحبها الشرعي إلى طريد بلده وأرضه مُهَجَرَاً مُشَتَتَاً في أصقاع الأرض، وحلول قطعان الهجرة اليهودية وعصابات الحركة الصهيونية محل أصحاب الأرض التاريخيين، إن الساعات الأخيرة من عمر الانتداب البريطاني والتحول المأساوي الذي حل بالشعب الفلسطيني إنما يعبر عن حجم المؤامرة الدولية التي مَثَّلَ فيها الانتداب البريطاني المرحلة الانتقالية للاستيلاء على فلسطين وتسليمها للحركة الصهيونية، فلم يكن الانتداب البريطاني عبر صك الانتداب إلا الخطوة قبل النهائية لقيام ما يسمى بدولة اسرائيل، وهو الصك الذي استبقه وعد بلفور في الثاني(٢) من تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩١٧ الذي أعطى فلسطين ممن لا يملك إلى من لا يستحق، وجاء من بعد اندلاع المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة عبر الثورات المختلفة قرار تقسيم فلسطين رقم ١٨١ لعام ١٩٤٧، والذي جاء بقرار وإرادة دولية لم تقصد ابداً إنصاف الشعب الفلسطيني واعطائه حقوقه، بل على العكس جاء قرار التقسيم لإعطاء الحركة الصهيونية الحق القانوني بالاستيلاء على الجزء الأكبر من أرض فلسطين، ونفي الحق التاريخي والقومي والديني للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، وتزييف وإعادة صياغة وتوجيه الرواية التاريخية  بالزج بالرواية الصهيونية والأساطير التوراتية وجعلها حقيقة تاريخية، والتي أثبت علماء ومؤسسات التاريخ والآثار في العالم عدم صحتها على الإطلاق وهي المؤسسات وهم العلماء الذين وظفتهم الحركة الصهيونية لإثبات روايتها السياسية من جهة والتوراتية من جهة أخرى.
بمراجعة سريعة وبسيطة للأحداث في عهد الانتداب البريطاني يتضح بأن سلطة الانتداب البريطاني كانت الحديقة الخلفية لنشاط الحركة الصهيونية وبناء مكونات ومقومات دولة إسرائيل استعداداً لفرضها على الشعب الفلسطيني من جهة والعالم من جهة أخرى، وهذا ما حصل بأقل من ٢٤ ساعة من الزمن بين ١٤/٥/١٩٤٨ تاريخ إعلان بريطانيا انتهاء الانتداب على فلسطين و ١٥/٥/١٩٤٨ تاريخ الإعلان عن قيام ما يسمى دولة إسرائيل.
لم يفلح العالم عبر كل المراحل التاريخية في إرساء قواعد الحق والعدل والسلام على الرغم من احتشاد العديد من القوانين والمبادئ المتعلقة بقضايا الحروب وحقوق الإنسان والقانون الدولي والتي أقرتها المؤسسات الأممية، وكذلك قرارات مجالس الأمن المتعاقبة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن بعض الدول التي تتمتع بالقوة وقيادة العالم وما عرف بالقوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية قد استمرت بالانحياز إلى جانب المصالح الاستعمارية والكيل بمكيالين، بما استمر معه ممارسة الظلم على الشعب الفلسطيني باحتلال إسرائيل لأراضيه عام ١٩٤٨ رغم تقديم إسرائيل التعهد بتنفيذ قرار التقسيم مقابل الاعتراف بعضويتها بالأمم المتحدة، بل وتجاوز الظلم والكيل بمكيالين إلى التسليم باحتلال كافة الأراضي الفلسطينية وأراضي ثلاث دول عربية عام ١٩٦٧، بما مكن إسرائيل سياسياً، ورفع درجة تفوقها العسكري وصاغت البربوغندا ما عرف بأسطورة " الجيش الذي لا يقهر" حتى عَبَرَت دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى هزائمها المنكرة في حرب الكرامة ٢١ آذار (مارس) ١٩٦٨، وحرب العاشر من تشرين أول (أكتوبر) ١٩٧٣.
عندما لم يفلح العالم بتحقيق الحق والعدل والسلام جاءت حرب ١٩٦٨ التي قادتها الثورة الفلسطينية ونخبة الجيش العربي الأردني، وحرب ١٩٧٣ التي اشتعلت على الجبهتين المصرية والسورية حتى يعيد العالم حساباته بقضية العدل والسلام، ودور ومخططات دولة الاحتلال الإسرائيلي بالمنطقة، إلا أن مختلف المعارك العسكرية أو السياسية لم تحقق كامل أهدافها وخاصة أن العالم عموماً والمنطقة العربية خصوصاً قد وقعت تحت تأثير تفاعلات الحرب الباردة بين قطبي الصراع العالمي الاتحاد السوفييتي آنذاك والولايات المتحدة الأمريكية والأخيرة التي حافظت على تفوق إسرائيل سياسياً وعسكرياً على ما دونها في الصراع العربي الإسرائيلي.
كان من مخرجات الحرب الباردة أن تشكلت مجموعات وإئتلافات دولية وإقليمية مثلت محركاً فعالاً في خلق اصطفافات وعلاقات دولية داخل أروقة الأمم المتحدة عززت الاعتراف الأممي بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني ومُنِحت صفة مراقب كحركة تحرر وطني وذلك بتاريخ ٢٢/١١/١٩٧٤، وهذا جاء على إثر الخطاب التاريخي للرئيس الراحل ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ ١٣/١١/١٩٧٤، وانسجاماً مع قرار القمة العربية (٧) بالرباط في ٢٦ تشرين أول (اكتوبر) ١٩٧٤ باعتماد م.ت.ف ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.
لقد جاء خطاب الرئيس الراحل ياسر عرفات عام ١٩٧٤ بالأمم المتحدة نقلة نوعية في إعادة توجيه ذاكرة ووعي العالم بالقضية الفلسطينية، وإحياء الرواية الفلسطينية بإطار الرد والتصحيح على ما دأبت عليه الحركة الصهيونية من تزييف ونفي وتهويد للحقائق التاريخية.
لقد كان الخطاب الشهير للرئيس ياسر عرفات معول هدم للسيطرة الصهيونية وروايتها وأساطيرها السياسية والتوراتية، وخطاب التغلب على البربوغندا الإسرائيلية التي  سيطرت على موقف معظم الدول الأوروبية وتقمصت فيها إسرائيل دور الضحية، لقد حمل خطاب الرئيس ياسر عرفات معاني ورسائل متعددة بقوله الشهير " لقد جئتكم ببندقية الثائر بيد، وبغصن الزيتون باليد الأخرى فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي" وقَدَمَ فيه الرواية الفلسطينية في تكامل فعل البندقية وغص الزيتون في كناية عن الحق الفلسطيني وشرعية الكفاح الوطني المسلح والنضال السياسي، الحق الذي أساسه الرواية الفلسطينية المحملة بحقائق التاريخ، والجغرافيا، والحضارة، والإنسان الثائر ورجل السلام، وقد انطوت المقولة الشهيرة على ترك باب الخيارات للعالم مفتوح ما بين الحرب والسلام، والتوقف عن الانحياز، والازدواجية، والكيل بمكيالين.
تأتي الذكرى الخامسة والسبعين (٧٥) للنكبة وقد دارت عجلة التاريخ والأحداث بتسارع ما بين صعود وهبوط، وتحولات كبيرة في مراكز القوى العظمى أفضت إلى أحادية القطبية التي عززت الدور الأمريكي وأصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية شرطي العالم الوحيد، والآمر الناهي بقضايا الحرب والسلام، وأطلق يد أمريكا في التدخل بالشؤون الداخلية لمختلف دول العالم، وكذلك بإدارة الشأن العالمي في أروقة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، وانعكس هذا كله على دور الولايات المتحدة الأمريكية في تفاعلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والذي تميز بالانحياز تارة وبالكيل بمكيالين تارة أخرى بما أفسد وبشكل كريه مفهوم الرعاية الأمريكية  لعملية السلام ما بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
تجيء الذكرى الخامسة والسبعين (٧٥) للنكبة الفلسطينية وبإنتظار خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأول في الأمم المتحدة بعد أن أقرت الجمعية العامة في تشرين ثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢ إحياء الذكرى بتاريخ ١٥ أيار (مايو) من كل عام، هذا القرار الذي يعيد الرواية الفلسطينية المحملة بالمأساة إلى الواجهة العالمية، ويفند الرواية الصهيونية السياسية والتوراتية التي أغرقت العالم تزييفاً، ويُرَسِخ هذا القرار الأممي مصطلح النكبة في الوعي العالمي الرسمي والشعبي، ويحشد العمل للدفاع عن الرواية الفلسطينية في المحافل المختلفة، وهذا ما اغضب دولة الاحتلال وشنت بسببه حملة مسمومة في دعوة الدول الأعضاء بالأمم المتحدة  لمقاطعة إحياء هذه الذكرى وخطاب الرئيس محمود عباس الذي سيقوم على تكامل الحق في كفاح ونضال ومقاومة الشعب الفلسطيني بكافة الوسائل والأشكال التي شرعتها تجارب الشعوب والقوانين الدولية والانسانية، وكذلك السعي خلف السلام العادل.
إن التاريخ يعيد كتابة نفسه من جديد في الكشف عن مراحل الصعود والهبوط في قوة الإمبراطوريات والدول والنظم السياسية في العالم فمن وصل إلى القمة والذروة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي باستقالة الرئيس ميخائيل غوربتشوف بتاريخ ٢٥ كانون أول (ديسمبر) ١٩٩١ فقد بدأ يهبط من ذروته بحروب بالوكالة لن تؤمن بقائه حاكماً متفرداً بالعالم، وأزمات سياسية واقتصادية عميقة وتضخم غير مسبوق، وأزمات الطاقة والنفط، وليواجه قطبية متعددة في روسيا والصين، إن التذكير بهذا الحال ينبئ بالقيمة المضافة للقرار الأممي بإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية التي تَقُص عن الرواية الفلسطينية الحق التاريخي، والقومي، والديني، والإنساني، وينبئ بالتحول القيمي والأخلاقي في مواقف الدول التي صمتت عقوداً عن جرائم إسرائيل منذ النكبة إلى يومنا هذا، وهذا الذي يقلق إسرائيل بما سيؤثر على مجريات اتخاذ القرارات الأممية لاحقاً لخطاب الرئيس محمود عباس فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية،  ومساءلة ومحاسبة إسرائيل كدولة احتلال عن جرائمها، وقد سبق وأن السياسة الفلسطينية التي عبر عنها الرئيس محمود عباس في خطاباته السابقة بالأمم المتحدة قد أنجزت الكثير في تحقيق التضامن والعمل الدولي دعماً للقضية الفلسطينية، ورأس تلك الإنجازات الاعتراف الأممي بدولة فلسطين عضواً مراقباً كما كان بعد خطاب الرئيس الراحل ياسر عرفات عام ١٩٧٤ اعترافاً بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني وعضواً مراقباً كحركة تحرر وطني.
إن الخطاب الأول للرئيس محمود عباس في إحياء ذكرى النكبة الخامسة والسبعين (٧٥) إنما مؤداه أن:
•    يؤسس لتحالف دولي جديد في أروقة الأمم المتحدة وخارجها يقوم على العمل على تكريس الرواية الفلسطينية في تفنيد الرواية الصهيونية التي تَشَبَعَ بها العالم نتيجة اختلال موازين القوة، واختلال الأداء السياسي الدولي القائم على المصالح، والتفرد بحكم العالم عبر ما يزيد عن عقدين من الزمن.
•    سيعمل مع حركة التاريخ في تصحيح الاختلال في موازين القوى العالمية مع نهاية أحادية القطبية، والتحول إلى القطبية المتعددة مع صعود روسيا، والصين، والهند، واتجاه هذا التصحيح لمصلحة الشعوب المضطهدة والفقيرة في العالم والتي نهبتها الإمبريالية العالمية والصهيونية.
•    سيعكس الخطاب صدق وتكامل الرواية الفلسطينية والدفاع عنها طيلة ٧٥ عاماً سواءً بممارسة الكفاح والمقاومة بكافة أشكالها وأساليبها، أو عبر النضال السياسي والدبلوماسي الفلسطيني، وهذا يعكس مصداقية الموقف الفلسطيني بالتزامه بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني منذ خطاب التاريخي للرئيس الراحل ياسر عرفات عام ١٩٧٤ بالأمم المتحدة إلى خطاب الرئيس محمود عباس بالذكرى ٧٥ للنكبة بالأمم المتحدة وهذا يؤكد توحيد مقامات السياسة الوطنية بين رؤساء الشعب الفلسطيني في نفس المكان.
•    سيطالب الرئيس محمود عباس بخطابه يوم ١٥ أيار (مايو) ٢٠٢٣ الدول الأعضاء بالأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين وسيادتها على حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧ بما فيها القدس، وبروح المقولة الشهيرة للرئيس الراحل ياسر عرفات آنذاك عام ١٩٧٤ " لقد جئتكم ببندقية الثائر بيد، وبغصن الزيتون باليد الأخرى فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي".


 


 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.