كتب رئيس التحرير: في كل ملف على الساحة الدولية دروس وعبر لمختلف القوى الفاعلة في النظام الدولي، وكل هزّة في هذا النظام لها مسبباتها العميقة، والتي لا يُمكن رؤيتها على السطح، بل ينبغي على من يريد معرفتها التوغل في داخل تركيبة اللاعبين على المسرح الدولي.

آخر الهزات التي وقعت في هذا النظام هي ما حدث في أفغانستان، والتي شكلت صدمة للداخل الأفغاني وللخارج ممثلاً بجميع دول العالم، أولها هي راعية الغزو "الولايات المتحدة الأمريكية".

سيطرة طالبان السريعة على كابُل كانت خبراً مفاجئاً لكل الجهات الدولية وخارج معظم الحسابات وحتى حسابات المخابرات الامريكية التي تشرف على حوار الدوحة، وانقسمت التحليلات لما حصل من مختلف المتابعين للشأن الافغاني بين انه تم ترويض طالبان في قطر لصعوبة هزيمتها وبين انتصار فعلي للحركة بالقوة ودون اي اتفاقات مع الجهات الدولية وخاصة الأمريكية منها.

وفق التحليل الأول فإن الأمريكيين ونظرا لحجم الخسائر البشرية والاقتصادية وضعف الحكومة الأفغانية وقوة طالبان التي استمرت بالعمل العسكري والمقاومة الشاملة خلال عشرين عاما الا ان واشنطن قررت بعد كل هذه السنوات احتواء طالبان بدلا من هزيمتها شبه المستحيلة.

تريد أمريكا أيضا أن تضع (بعبع) طالبان العدو التاريخي لروسيا بحيث يهدد وفق التنسيق الامريكي الطالباني جمهورية الصين والهند، ومن خلال ذلك تستطيع أمريكا استخدام الدولة الجديدة بفكرها الذي يعادي تلك الدول لتنفيذ أجنداتها وحتى اشعال حروب بينهما، وتكون واشنطن بذلك تنفذ اجندتها في إضعاف التنين الصيني والقيصر الروسي عبر وكيلها الجديد طالبان، ومما يعزز هذا السيناريو استمرار الحوار في قطر والتصريحات الأمريكية حول التفاهمات مع طالبان باحترام القوانين الدولية والاتفاقيات وكذلك عدم محاكمة المتعاونين مع الأمريكيين من الافغان وتمكين وإشراك ودمج المراة، وكذلك إعلان الاتحاد الاوروبي استعداده للتعامل مع الأمر الواقع ضمن شروط تتعلق باحترام القوانين الدولية.

التحليل الآخر والذي شدد على هزيمة نكراء للأمريكيين وانتصار لكل من روسيا والصين وبشكل خاص الصين التي بدأت في الاتصالات منذ فترة، وبدأت في انشاء طريق الحرير وبالتالي فتح أسواق جديدة للمارد الاقتصادي الصيني، وسيطرة على الموارد الطبيعية النادرة والكثيرة في افغانستان والتي تستخدم في الصناعات الحديثة مثل مادة الليثيوم التي تستخدم في صناعة البطاريات للسيارات الكهربائية، ومعدن البريليوم الذي يستخدم في صناعة الصواريخ والطائرات فائقة السرعة، ناهيك عن معدن النحاس. وتعتبر افغانستان ثاني احتياط في العالم في هذه المادة، ومن الواضع ان من يسيطر على افغانستان سيكون له التأثير الأكبر في منطقة آسيا والشرق الأوسط.

الصورة لم تتضح بشكل كبير، إلا ان سلوك طالبان فيه من الجديد والذي يُفسر بأكثر من اتجاه وخاصة اعلانها بالعفو عن المتعاونين واحترام حقوق المراة والقوانين الدولية وانها تسعى لتشكيل حكومة من كل الأطياف وفق المطالب الدولية.

الهزيمة كانت واضحة على الأمريكيين، وخاصة أن هروب آلاف المتعاونيين خلف الطائرات الامريكية يوضح ان ما تم كان مفاجئا لواشنطن التي خذلت المتعاونين معها، وشاهد العالم المشاهد المؤلمة من سقوط عملائهم من الطائرات التي تعلقوا بها في مشهد مطابق لما حدث في فيتنام.

أمريكا راهنت من خلال تشكيل قوة بأحدث الاسلحة قوامها 300 ألف جندي خلال عشرين عاما، أن الجيش الأفغاني سيهزم حركة طالبان التي قوامها 80 الف مقاتل مزودين بأسلحة تقليدية خفيفة، راهنت أمريكا أن الحروب بين الطرفين ستستمر لتحافظ هي على جنودها وتتفرغ لملفات أخرى لكن ما حدث كان غير متوقع وسريع ومفاجئ لهم.

ما حدث في افغانستان أظهر بشكل جلي عدم قدرة أمريكا على المحافظة على احتلالها وانها دوما تخسر أمام الشعوب وان ما حدث في فيتنام وأفغانستان سيحدث قريبا في العراق وفي فلسطين؛ لأن قوة الإرداة للشعوب ستنتصر على إرادة القوة للاحتلال.