راكمت القضية الفلسطينية، خلال ما يقارب قرناً من الزمن، تراثاً ثقافياً وسياسياً وأخلاقياً يصعب تجاوزه، وصارت النموذج العربي للقضية العادلة، فسواء تعلّق الأمر بقيم الجهاد الديني، أو التحرر الوطني، أو مواجهة المنظومة الرأسمالية -الإمبريالية، أمكن لفلسطين أن تكون في قلب كل نضال سياسي في المنطقة، ما جعلها بالفعل البوصلة التحررية العربية، خلال معظم القرن العشرين.
إلا أن «القضية» راكمت في الوقت نفسه تجارب قمعية ودموية، جعلت كثيرين يبتعدون عنها، أو على الأقل يفقدون حماسهم لها، أنظمة استبدادية، بنت جانباً كبيراً من هيمنتها الأيديولوجية على قيم الأرض والتحرير؛ أجهزة أمنية وميلشيات طائفية، حملت اسم فلسطين والقدس؛ حروباً أهلية شرسة، وقمعاً لكثير من المطالب الديمقراطية، بدعوى أولوية المعركة ضد المحتل.
الربيع العربي كان تحولاً مفصلياً في «البوصلة التحررية» تراجعت قضايا التحرير ومواجهة الاحتلال والصهيونية، وبرزت قضايا التحول الديمقراطي؛ الحقوق الفردية والجماعية؛ التنمية والعدالة الاجتماعية. وظهرت أسئلة مختلفة، مثل موضع العالم العربي في المنظومة العالمية؛ حدود الديمقراطية التمثيلية وسلطة الدولة؛ الفردانية والجماعاتية، إلخ. ورغم أن أحداً لم يدّع أن هذه الأسئلة والقضايا متناقضة جذرياً مع مسائل التحرر الوطني الكلاسيكية، إلا أن خطاب الأرض والتحرير، بدا وكأنه ينتمي إلى عصر آخر مضى، ما أثار حفيظة كثير من أنصار «القضية» التقليديين.
اليوم، وبعد فترة من تعثّر الربيع العربي، تعود فلسطين من جديد بوصفها «البوصلة» مع حراك شعبي واسع، وحّد فئات متعددة من الفلسطينيين، وتعاطف عربي وعالمي كبير، ما يشكّل فرصة ممتازة لفتح نقاش سياسي – اجتماعي واسع حول المنظورات المتعددة والمتراكمة لقضايا التحرر العربية: هل ما زالت «القضية الفلسطينية» بصيغتها التقليدية، التي تربت عليها أجيال عربية عديدة، صالحة سياسياً، بوصفها دليلاً لانتزاع حقوق وحريات أكبر على المستويين الفلسطيني والعربي؟ كيف يمكن تمييز خطاب، يمكن وصفة بالديمقراطي أو الحقوقي، بخصوص فلسطين والعالم العربي، عن خطاب قائم على مفاهيم الصراع الديني – القومي؟ وهل من المنطقي أصلاً الفصل بين الخطابين، أو الحسم بوجود تناقض بينهما؟ ما طبيعة القوى الاجتماعية التي تحمل «القضية» اليوم؟ وهل توجد فرصة لقيام ائتلافات شعبية تمثّل مصالح ومطالب فئات متعددة داخل فلسطين وخارجها؟ هل من الممكن، على أساس الولاء لـ«القضية» وحده، قيام جبهة واحدة، أحد طرفيها بقايا حركات اجتماعية، قامت ضد سلطات استبدادية؛ وطرفها الآخر قوى سياسية ومسلّحة، مؤيدة لهذه السلطات؟
قد تكون البلاغة المتراكمة عن القضية الفلسطينية عائقاً كبيراً أمام معالجة هذه الأسئلة، لكن يبقى نقاشها ضرورياً، إذا كان هنالك أي معنى للتجربة التاريخية، وكي لا تبقى «القضية» تدور في دائرة مفرغة.

لم يقتصر نشاط منظمة التحرير على صياغة الأيقونات، بل أسست لمفهوم واضح لحقوق الجماعة السياسية الفلسطينية: يحق للفلسطينيين أن يكون لهم وجودهم الوطني الخاص، وتمثيلهم السياسي المتعدد، عن طريق مجموعة من القوى، التي تستوعب تنوّع توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، لكنها تأتلف في إطار وطني موحّد.

بناء الجماعة السياسية

تفترض أي قضية تمثيل مصالح وتطلعات جماعة سياسية ما، وبما أن الجماعات السياسية ليست معطيات موجودة بشكل طبيعي، فغالباً ما يكون بناء القضية تأسيساً للجماعة بحد ذاتها، وتحديداً لهويتها وحقوقها السياسية الأساسية، وهذا بالضبط ما فعلته القضية الفلسطينية في عصرها الذهبي: نجحت منظمة التحرير الفلسطينية ببناء جماعة سياسية غيّرت وجه المنطقة إلى الأبد، وهي «الشعب الفلسطيني» عن طريق انتزاع قرار مستقل عن هيمنة الدول العربية، التي استبدّت بالقضية منذ النكبة؛ وإعادة إنتاج تراث فلسطيني؛ وصياغة نموذج أيقوني للتحرر الوطني: الفدائي، الذي لا يخضع لوصاية أي جهة، في سبيله لتحقيق أهداف نضاله.
لم يقتصر نشاط منظمة التحرير على صياغة الأيقونات، بل أسست لمفهوم واضح لحقوق الجماعة السياسية الفلسطينية: يحق للفلسطينيين أن يكون لهم وجودهم الوطني الخاص، وتمثيلهم السياسي المتعدد، عن طريق مجموعة من القوى، التي تستوعب تنوّع توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، لكنها تأتلف في إطار وطني موحّد. خاضت المنظمة معارك شرسة في سبيل الحفاظ على هذه الصيغة، ونجحت بذلك بشكل معقول، وسط ظروف شديدة الصعوبة، وعندما كان كثير من الشعوب العربية تخضع لأحادية أنظمة استبدادية، أسكتت كل الأصوات لأجل «صوت المعركة» تمتع الفلسطينيون بحريات سياسية متقدمة، مقارنة بالسياق العربي، بل أمست مؤسساتهم السياسية والثقافية، في كثير من الأحيان، ملاذاً لكثير من المناضلين والمثقفين العرب، رغم الفساد والقمع، اللذين لم تخل منهما تلك المؤسسات.
الاضمحلال التدريجي لمنظمة التحرير، مع نهايات عصر التحرر الوطني عالمياً، فكك الجماعة السياسية الفلسطينية نفسها، ليبرز مفهوم جديد لـ»السياسي» في ما يتعلق بفلسطين: ليست القضية قضية وطنية لـ»الشعب الفلسطيني» في إطار عربي وأممي، بل هي أكبر من الشعب نفسه، وسابقة عليه؛ ولا معنى لقرار وطني مستقل، فكل من يمضي في «طريق القدس» يملك حقاً في امتلاك القضية المقدسة. القرار الفلسطيني، الذي ناضل ياسر عرفات ورفاقه لانتزاعه، محاربين أعتى الأنظمة، من بقايا الناصرية وحتى نظامي البعث في سوريا والعراق، صار مشتتاً بين عواصم ومدن كثيرة، لا تُعنى أساساً بحقوق الجماعة السياسية للقضية.
اليوم يوجد أكثر من خطاب عن القضية الفلسطينية، لكن ما يجمعها هو غياب مفهوم واضح للجماعة السياسية، يوجد فلسطينيون، أبطال ومجاهدون وناشطون، يواجهون الاحتلال، لكن ما مشروعهم الوطني والسياسي، باستثناء الصمود وإيقاع الخسائر بالمعتدين الإسرائيليين؟ ربما يجب طرح التركيز على هذا السؤال بشدة، كي تعود فلسطين «بوصلة» تحررية.

والقضية الفلسطينية بدورها ليست مجرد مطيّة للصراعات الإقليمية، وانتهاكات الميليشيات، التي تقتل باسم القدس، بل تعبّر، في جانبها الأساسي، عن حيوية اجتماعية مناهضة للقمع والاحتلال والفصل العنصري.

الشعب الذي لا يريد

ربما يكون انحلال القضية الوطنية الفلسطينية قد ساهم، أكثر حتى من استغلال أنظمة الاستبداد لشعاراتها، في تراجع الاهتمام العربي بفلسطين، قبيل وأثناء الربيع العربي، الذي أنتج حراكاً اجتماعياً جديداً، حاول بناء جماعة سياسية، على أساس شعار «الشعب يريد». «الشعب الذي يريد» كان مفهوماً غامضاً وملتبساً، إذا قارناه بمفاهيم الجماعات السياسية، التي أنتجتها حركات التحرر الوطني، ومنها منظمة التحرير الفلسطينية، فهو ائتلاف لا يمتلك قواه السياسية المنظمة، ولا تحديداً واضحاً للمفاهيم والمطالب التي يحملها، ما يجعل شعاراته، وعلى رأسها الحرية وإسقاط الاستبداد والعدالة، ذات مدلولات مفتوحة لدرجة التبدد. وهذه المشكلة ليست مقتصرة على الحراك العربي، بل برزت في معظم الاحتجاجات الاجتماعية حول العالم، ما قد يجعلها شرطاً ملازماً، بشكل بنيوي، لكل محاولة معاصرة للتغيير.

فرغت الساحات من «الشعب الذي يريد» وصار الخوف من الفوضى محركاً أساسياً لكثير من المجتمعات، وعلى هذا الأساس حاولت الأنظمة الحاكمة ترميم سلطتها وهيمنتها الأيديولوجية، وبما أن «الشعب» لم يعد يريد شيئاً إلا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أساسيات وأنماط حياته، بعد أن فشل في التحقق في جماعة سياسية جديدة، فربما كان الارتباط العاطفي بقضية عادلة ومترسّخة، مثل القضية الفلسطينية، تعويضاً مناسباً للفشل السياسي والاجتماعي، إلا أن مشكلة هذا التعويض أنه يفتقد بدوره لجماعة سياسية واضحة المعالم، يمكن لها أن تبثّ روحاً جديدة في الأوضاع العربية المتدهورة، كما فعل الفلسطينيون سابقاً، في نهاية ستينيات القرن الماضي.

إلا أن الربيع العربي لم يكن مجرد سيرة فشل خاوية من المعنى، فهو قد أطلق سلسلة طويلة من النضالات الجزئية في سبيل الحريات الأساسية، وحرّك كثيراً مما هو راكد عربياً؛ والقضية الفلسطينية بدورها ليست مجرد مطيّة للصراعات الإقليمية، وانتهاكات الميليشيات، التي تقتل باسم القدس، بل تعبّر، في جانبها الأساسي، عن حيوية اجتماعية مناهضة للقمع والاحتلال والفصل العنصري.
قد تكون الأحداث الفلسطينية الأخيرة فرصة لإعادة إنتاج سياسي لأفضل ما في «الربيع» و»القضية» وهذا يتطلّب أساساً إعطاء فرصة للنقد والنقاش العام، بدلاً من محاولة تصليب موقف أحادي ضمن حدود «صوت المعركة»؛ إضافةً لمحاولة التوصل لخطاب واضح، يضع حداً للتمازج الحالي، بين موقف لا ينسب «القضية» لحقوق جماعة سياسية، بل لمقدسات متعالية على البشر وحياتهم واستمراريتهم؛ وآخر يرى في النضال الفلسطيني تعبيراً عن الاستمرارية الإنسانية نفسها، في مواجهة سلطات مدمرة للحياة.
ما يمكن أن يمنحه إرث الربيع العربي للقضية الفلسطينية هو بالضبط ما افتقدته منذ تحلل منظمة التحرير: مفهوم «الشعب يريد»؛ وما يمكن أن تمنحه القضية للنضال التحرري العربي هو ما خسره منذ فشله وتبدده: حافزا حيويا للعودة للفعل السياسي. ولذلك فإن الانجرار الانفعالي وراء نمط مفروض من «المعارك المصيرية» قد لا يكون السبيل الوحيد للفعل، فقد شهد الشرط الحداثي دوماً أصواتاً ناشزة عن «صوت المعركة» المقدس، استطاعت تأسيس إشكاليات سياسية جديدة، حققت التغيير الفعلي، مثل نقد جانب مهم من الحركة العمالية للنزعة الوطنية لدى بعض الأحزاب الاشتراكية، إبان الحرب العالمية الأولى؛ والاحتجاجات في الولايات المتحدة ضد حرب فيتنام. وربما كان الفعل السياسي الأساسي، الذي يجب على أنصار تحرر فلسطين والعالم العربي القيام به، هو بناء إشكالياتهم ومعاركهم، باتساق مع منظورهم السياسي الخاص، لا الانجرار الدائم لمعارك تُفرض عليهم.