إذا أردنا أن نجيب عن هذا السؤال، نحتاج إلى تلخيص «إنجازات» نتنياهو في حقل الحالة الحزبية والسياسية في إسرائيل.
تمكن نتنياهو من تهشيم اليسار، وقسم الوسط، وشرذم اليمين وشق العرب في غضون عامين فقط.
لم يستسلم بعد ولن يفعل ذلك مطلقاً.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالمستقبل السياسي المتوقع له، فإن نتنياهو انتقل فقط من «الطموح» لتشكيل حكومة برئاسته، وهو الأمر الذي كان سيوفّر له ـ من زاوية ما يراه هو ـ درجة معينة من التملص الكافي للإفلات من المحاكمة التي تدينه. علماً بأن هذا الإفلات ليس سهلاً حتى لو تمكن من أن يكون أو يظل على رأس سدة الحكم في إسرائيل، وهو بعد تلاشي هذه الإمكانية، الآن، هو اقرب إلى الإدانة من أي وقت مضى... انتقل إلى طموح جديد يتمثل في تعطيل تشكيل أي حكومة ليست برئاسته والذهاب إلى انتخابات خامسة.
السياسي الوحيد في إسرائيل الذي يرى في الانتخابات الخامسة الفرصة (الوحيدة)، التي تبقيه في دائرة المنافسة السياسية، هو نتنياهو، وهو السياسي الوحيد الذي يراهن حتى اللحظة على مزيد من الخراب في المجتمع السياسي والحزبي الإسرائيلي، وبحيث يعود إلى الحلبة السياسية باعتباره الزعيم «الوحيد» القادر على «إخراج» إسرائيل من الأزمة السياسية التي تعصف بكامل النظام السياسي فيها.
لهذا فإننا في الواقع أمام مشهد سياسي عبثي له الكثير الكثير من مواصفات السوريالية السياسية.
كما يعرف القراء ويذكرون فإن غالبية التوقعات السياسية لمرحلة ما بعد الانتخابات الرابعة كانت ترجّح الفشل في القدرة على تشكيل حكومة من خارج سطوة اليمين واليمين المتطرف.
قلة قليلة ـ من بينهم كاتب هذه المقالة ـ توقعوا فشل اليمين في التماسك الداخلي وترجيح ان يُعهد للوسط بالتحالف مع بعض الكتل اليمينية من غير الأحزاب الدينية ومع اليسار، وربما بدعم من إحدى القوائم العربية أو كلتيهما بمحاولة تشكيل الحكومة.
تتجه الأنظار حتى كتابة هذا المقال نحو يائير لابيد، وهناك ما يكفي من الدلائل أن هذا التوجه لدى الرئيس الإسرائيلي لم يعد شكلياً ولا بروتوكولياً فقط، وإنما بات يستند أيضاً إلى إمكانيات واقعية لجهة دعم وتفاهمات ما بين لابيد من جهة وما بين كل من ساعر ونفتالي بينيت، إضافة إلى الدعم والتفاهمات التي حاز عليها وعقدها لابيد مع الوسط واليسار أيضاً.
إذا نجح لابيد في تشكيل حكومة لها بعض ضمانات الاستقرار النسبي المؤقت، أو بما يصل إلى سنة كاملة أو سنتين فإن اليمين واليمين المتطرف، والأكثر تطرفاً وفاشية سيتشظى من جديد، وربما أننا سنكون أمام مرحلة جديدة تتميز بفقدان هذا اليمين لزمام المبادرة في إسرائيل، بل وربما نكون أمام مرحلة تتميز على الصعيد السياسي والحزبي بعودة «اليسار» و»الوسط» إلى حلبة المنافسة من جديد، وبأبعاد اجتماعية جديدة في الحقل الاجتماعي، وتحديداً في مجال درء أخطار التهديد للنظام «الديمقراطي» في إسرائيل، دون أن يكون بعد ما يكفي من المؤشرات المطلوبة للحديث عن الأبعاد السياسية التي تتصل بالتسوية السياسية مع الشعب الفلسطيني.
وسواء نجح لابيد بتشكيل هذه الحكومة، أو فشل واضطرت إسرائيل للذهاب إلى انتخابات خامسة فإن لابيد قد استطاع أن يبني لنفسه شخصية قيادية بدأت تشق طريقها نحو «خلافة» نتنياهو وبدأت تشنّف آذان بعض القطاعات الاجتماعية، وبعض الأوساط السياسية والتجمعات الثقافية كشخصية (وطنية) تؤثر العمل العام على المصالح الخاصة والشخصية، ولها بعض الرصيد الخاص على مستوى الاختلاف عن نتنياهو، بل والتناقض التام مع الكثير من مواصفات التلاعب والكذب والمناورات الانتهازية.
ويكاد ينطبق الأمر أيضاً على بدء استعادة حزب العمل «لهويته» الاجتماعية والثقافية والمراهنة على دعم بعض القطاعات الاجتماعية والثقافية للحزب، إضافة إلى إصرار حزب «ميرتس» على نفس هذا النهج من التمايز السياسي إضافة إلى البعد الاجتماعي والثقافي أيضاً.
المهم أن ثمة فرصة سانحة يمكن أن يكون عنوانها انتهاء حقبة السيطرة اليمينية على مقاليد الحكم ومفاصل الدولة في إسرائيل، وثمة فرصة سياسية لإعادة اصطفاف حزبي فيها سيكون حتماً في حالة تحققه ضربة كبيرة لكامل النهج الذي كرسه نتنياهو، ولكامل نهج العربدة السياسية التي مارسها في الحالة السياسية الإسرائيلية كلها. من بين «المحفّزات» التي تُزكي هذا التوجه الوضع الدولي والوضع الإقليمي كذلك.
إدارة الرئيس بايدن والاتحاد الأوروبي سيجدون أنفسهم أكثر «انسجاماً» مع إسرائيل في حال إن تمكن لابيد من تشكيل الحكومة، وستجد الدول العربية، وخصوصاً مصر والأردن نفسها أقل تناقضاً أو تعارضاً مع حكومة كهذه حتى وإن كانت الاعتبارات السياسية بما يتصل بالقضية الفلسطينية ليست أولوية سياسية لمكوناتها، وحتى لو أن بعض هذه المكونات، وخصوصاً مواقف حزب «يمينا» وحزب «أمل جديد» تتبنى من المواقف اليمينية المتطرفة ما يفوق، وما يتفوق على مواقف حزب «الليكود».
ومما يعزز هذه التوقعات والتوجهات أن الأحزاب الدينية ستجد نفسها أمام كتلة متراصة في وجهها وبما يحاصر امتيازات هذه الأحزاب كلياً وسعيها لفرض شروط المحافظة على هذه الامتيازات. من هذه الزاوية بالذات فإن انفراط عقد التحالف بين «الليكود» وبين الأحزاب الدينية يصبح واحداً من معالم المرحلة الجديدة، لأن جلوس هذه الأحزاب في «دكة» الاحتياط يفقدها الكثير، والجلوس في المعارضة بانتظار «الفرج» من شأنه أن يؤدي إلى انشقاقات جديدة وتشظيات كبيرة ستؤثر حتماً على كامل المشهد اليميني في إسرائيل.
أما الشيء المؤكد إن تمكن لابيد، حتى بقبول مبدأ التناوب مع نفتالي بنيت أو ساعر، أو في أي إطار أو صيغة لتشكيل هذه الحكومة سيؤدي حتماً إلى «اقتناع» الجميع ودون استثناء بـ»تأجيل» خطوات سياسية بما يتعلق «بالضم» أو ما شاكله من القضايا السياسية لأن «صمود» هذه الحكومة لمدة سنة واحدة ونصف السنة سيعني استكمال محاكمة نتنياهو، وبالتالي إخراجه كلياً من دائرة المنافسة سواء تم إنهاء حياته السياسية أو الوصول به إلى السجون.
كل مكونات حكومة كهذه تدرك أن نتنياهو يتمتع بشعبية كبيرة على الرغم من كل الخطايا التي ارتكبها بحق الحالة السياسية والحزبية في إسرائيل، وهو رجل يمتلك من «مواهب» القيادة والألاعيب السياسية ما يكفي لخوف كل الطيف السياسي في إسرائيل من عودته إلى حلبة المنافسة.
من هنا وللإجابة عن سؤال: هل هي النهاية؟ يمكننا القول، إن نهاية نتنياهو باتت على جدول الأعمال، وان نهايته لن تبقى نهاية رجل أو زعيم سياسي، وإنما ـ وهذا هو الأهم ـ ستكون بداية النهاية لحقبة سياسية جديدة لن يكون لليمين و»الليكود» الإسرائيلي فيها الدور المسيطر أو المتحكم أو المهيمن، وإنما سيتحول هذا اليمين وسيتوزع على الخارطة السياسية والحزبية، وسيتموضع داخلها، شأنه في ذلك شأن أي حزب سياسي قوي أو كبير دون أن يتجاوز حاجز متوسط القوة.