عالجنا قبل أسبوع ما أسميناه بظاهرة صعود «القائمة العربية الموّحدة» في الحقل السياسي الإسرائيلي. وأبرزنا خيطين؛ الأوّل أن في مجرّد وجودها ما يمثل حجر عثرة على طريق تشكيل جبهة فلسطينية موّحدة، والثاني كونها إسلاموية. والواقع أن هذا الخيط، الذي أمسكنا بطرفة يستدعي المزيد من التفكير انطلاقاً من فرضية أن في صعودها ما يتجاوز اللعبة الانتخابية الضيّقة، ويُحرّض على توسيع البيكار.
ولنتذكّر، دائماً، حقيقة أن «الإسلام السياسي» كان مشروعاً من أعلى إلى أسفل. فلم ينهض الفلسطينيون والعرب من تحت أنقاض الهزيمة الحزيرانية على صوت «ينادي في البريّة» معلناً نهاية القومية والأيديولوجيات المستوردة، وضرورة العودة إلى الأصل والجذور الدينية والتراثية العميقة، بل كان كل ما كان وثيق الصلة بالنفط، وآخر المعارك الكبرى في تاريخ الحرب الباردة، وإعادة العصاة إلى «بيت الطاعة» الرجعي والمحافظ، الذي كان دائماً، وما زال، شريكاً مثالياً للكولونيالية البريطانية، وبعدها الأميركية، وبعد بعدها الإسرائيلية، كما في أيامنا هذه.
ثمة تفاصيل وتعقيدات كثيرة في هذا المشهد، بالتأكيد، ومن المؤكد أن البعض تخيّل سماع صوت المنادي بطريقة مختلفة تماماً، وكان مقتنعاً، فعلاً، بأن «الإسلام هو الحل»، ودفع ثمناً باهظاً، وقاتل ضد الكولونيالية من حين إلى آخر.
ولكن هذه كلها تفاصيل صغيرة. فكما استقرت في الوعي الجمعي الخطوط العريضة لكيفية نشوء العالم العربي، كما نعرفه الآن، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ستستقر في الوعي الجمعي، بعد قرن من الزمن، الخطوط العريضة لموجة الأسلمة التي اجتاحت العالم العربي منذ أواسط السبعينات بخطوط عامة عريضة، أما التفاصيل فمن شأن أصحاب الاختصاص، وفي الغالب من شأن الأقدر على «كتابة حكايته».
والحاصل أن مشروع الأسلمة شاركت في صناعته دول في الإقليم والعالم، بما لديها من أجهزة أمنية وإعلامية، وشبكات مالية وأسواق ومصالح وعلاقات، بالتكافل والتضامن مع ما تنجب التحوّلات الاجتماعية والتاريخية الكبرى من قوى صاعدة وشبكات اجتماعية وسياسية.
لم «يجلس» هؤلاء معاً لنقاش المشروع وتفاصيله الصغيرة والكبيرة، بطبيعة الحال. ولا كان ثمة صورة واضحة لهوية وماهية المُنتج النهائي. فالتاريخ لا يتحرّك بهذه الطريقة. كل ما في الأمر أن جملة عوامل تأتي من اتجاهات مختلفة، وتنجم عن دوافع مختلفة، لتلتقي في لحظة بعينها، في سياق ما يختزله التعبير الألماني zeitgeist بطريقة فريدة: روح الزمن التي تسم هذه المرحلة أو تلك.
والحاصل، أيضاً، أن موجة الأسلمة وصلت مع الدواعش أقصى خطها البياني الصاعد، وأنها بدأت في الهبوط. وقد نعيد بداية انكسار الخط البياني إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر قبل عقدين. المهم أن المشروع الذي بدأ من أعلى إلى أسفل يُعاد تقييمه، الآن، من أعلى إلى أسفل، أيضاً، وأن مهندسيه في الماضي هم مهندسوه في الحاضر، مع اختلاف التسميات، والوجوه، واللغة، وحتى الروافع الاجتماعية، بطبيعة الحال. وهذا نصف الخيط الثاني.
والمفارقة أن مشروع الهندسة الجديد، الذي يتوازى مع انكسار الخط البياني، ويُسهم فيه، لا يمثل انقلاباً على فكرة «الإسلام هو الحل»، بل يعيد صياغتها بما ينسجم مع روح جديدة للزمن لا أجد إطاراً تتموضع فيه أفضل من «سلام إبراهيم»، الذي نخطئ كثيراً إذا اختزلناه في «خطة» ترامب، وما تجلى منها فوق الطاولة، ويلوح تحتها، حتى الآن. لا معنى «لسلام إبراهيم» خارج صعود القوى الإقليمية التركية، والإيرانية، والإسرائيلية في الشرق الأوسط، ومركزية إسرائيل في حلف إسرائيلي ـ خليجي قيد التشكيل. ولعل في هذا ما يساعدنا، في الواقع، على إنشاء صلة بين عملية إعادة الصياغة، والسياق العام الذي تتموضع فيه.
والمقصود بالسياق أن من بين أوصاف مختلفة يمكن إطلاقها على العالم العربي، في الوقت الحاضر، يبدو وصف «ما بعد القومية» أقربها إلى الواقع. ثمة قوميات محلية مستحيلة يجري توليدها في الهوامش الصحراوية، وعلى الأطراف، ولكنها لا تغيّر من حقيقة المشهد العام. والمهم، إذا استثنينا القوميات التركية والإيرانية، أن «القومية الإسرائيلية» بما تعني من أمن ومصالح وخصوصيات وسياسات «قومية» داخل الحدود وخارجها، تستدعي ضرورات الشراكة، أو الحماية (سمها ما شئت) قبولها والاعتراف بها، تبدو مقبولة وتحظى بالاعتراف الصريح أو الضمني لدى الشركاء الجدد.
وفي سياق كهذا تبدو كلمة واحدة في شعار طرحته «القائمة العربية الموّحدة» مفتاحاً لأبواب كثيرة. الكلمة هي «محافظ». فبقدر ما كانت مفردة «اليسار» شائعة في أدبيات السياسة العربية في زمن مضى، وبقدر ما أُلصقت تعبيرات من نوع «اليمين» و»المحافظ»، و»الرجعي» بجماعات الإسلام السياسي من قبل خصومها، إلا أن الجماعات المعنيّة تجنّبت دائماً وصف نفسها بتعبيرات كهذه.
ولكن يبدو أن تلك الأيام أصبحت وراءنا الآن. فبعض جماعات الإسلام السياسي تريد اقتحام الحقل السياسي تحت يافطة اليمين والمحافظة، بما يترجم، وينسجم مع، «ما بعد القومية»، وبأقل قدر ممكن من السياسة، وأكثر قدر ممكن من الهموم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، وعلى قاعدة فئوية تماماً، وطائفية إذا توفّرت.
يمكن الكلام، طبعاً، عن هيمنة وصعود اليمين الفخور وأيديولوجيته في إسرائيل والعالم كمصدر أكيد للتأثير. ولكن التأثير الأوسع والأشمل ينجم عن حقيقة أن «الإسلام السياسي» في صيغته الجديدة كيمين ومحافظ، بالمعنى الأخلاقي والثقافي، وقليل الدسم بالمعنى السياسي، وفخور أيضاً، ينسجم إلى حد بعيد مع عالم عربي مُتخيّل «لسلام إبراهيم»، ويحظى بالرضا والقبول من جانب الشركاء فوق الطاولة وتحتها. فالشركاء هم أم اليمين وأبوه. وهذا ثالث الخيوط. فاصل ونواصل.