أنجزت لجنة الانتخابات المركزية مهمتها التحضيرية، باعتماد قوائم المرشحين وهيئات الرقابة المحلية، واعتماد الصحافيين المخولين بالتغطية الإعلامية، وفي وضع قواعد للدعاية الانتخابية. وقد حازت اللجنة على ثقة مختلف القوى السياسية بسبب مهنيتها وحياديتها وأدائها الديمقراطي. وهذا يشكل ضمانة مهمة ومشجعة للمضي قدماً في العملية الديمقراطية التي يحتاجها المجتمع الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى.
غير ان التفاعلات الداخلية والخارجية تتحدث عن تأجيل أو إلغاء الانتخابات، بسبب استنكاف الدولة القائمة بالاحتلال عن السماح بإجراء الانتخابات في القدس المحتلة، وبسبب استنكافها عن السماح بدخول بعثة الرقابة الدولية الأوروبية. وهذا يعني ان دولة الاحتلال هي التي تقرر إجراء الانتخابات الفلسطينية أو عدم إجرائها. المماطلة الإسرائيلية تفسر في الظاهر والمعلن الخشية من نتائج تؤدي الى فوضى وعدم استقرار، اما السبب غير المعلن فهو الخشية من تغير ما في البنية التمثيلية السياسية الفلسطينية، من شأنه إشراك المواطنين في تقرير المصير والتحرر من الاحتلال وفي بناء ديمقراطية فلسطينية. سبب آخر غير معلن هو استمرار التمسك الاسرائيلي بصفقة القرن الترامبية التي منحت القدس الموحدة عاصمة لدولة الاحتلال. والتمنع عن السماح بإجراء الانتخابات في القدس يعني بقاء فكرة تقاسم القدس. ويهم نتنياهو الاوفر حظاً في تشكيل حكومة اسرائيلية جديدة استرضاء كتل سموتريتش الكهانية وبينيت وعتاة اليمين الديني والقومي من خلال التمسك بقرار ضم القدس «الموحدة».
ومن طرفنا، يحلو القول لا انتخابات من دون القدس. هذا الموقف لا تختلف عليه كل القوى السياسية المؤيدة والمشاركة في الانتخابات. لكن هذا الموقف لا يستقيم مع قرار إلغاء او تأجيل الانتخابات. فالأساس هو مشاركة القدس ترشيحاً وانتخاباً سواء وافقت سلطات الاحتلال او رفضت. ومن المفترض ان يكون لدينا خطة «ب». وهي تصويت المقدسيين في اماكن تحددها لجنة الانتخابات داخل مدينة القدس وخارجها، واذا قامت سلطات الاحتلال بقمع المنتخبين، يمكن اللجوء الى اساليب متعددة بما يضمن مشاركة المقدسيين وتمثيلهم في المجلس التشريعي. ولا شك ان إشراك القدس يحتاج الى خطة وطنية ومجتمعية يشارك فيها كل القوى السياسية والفعاليات المقدسية. ولتكن القدس عنواناً لمعركة الانتخابات في حالة الرفض الإسرائيلي. وليكن القرار فلسطينياً مستقلاً.
إن تأجيل الانتخابات أو إلغاؤها بعد عشر سنوات من استحقاقها، سيكون له نتائج سلبية تفوق النتائج السلبية الناجمة عن فوز او إخفاق وتراجع هذا الطرف أو ذاك، وبخاصة بالنسبة لحركة فتح. فالانسداد في بنية الحركة السياسية الفلسطينية واختناقها بالبيروقراطية لا مخرج له إلا بإشراك منظم للمواطنين وبتحديث في البنية السياسية والتنظيمية، وبتطوير في الفكر والتفكير السياسي. وهذا يمر عبر اشكال مختلفة من المبادرات أهمها الانتخابات. لقد أدت كوابح التغيير الداخلية خلال عقود مضت الى أزمة متفاقمة قد تؤدي الى احتمال الانهيار والدخول في حالة من الفوضى والتدخلات والأخطر من ذلك تثبيت المقولة الإسرائيلية الزاعمة بأن الشعب الفلسطيني لا يستطيع تقرير مصيره بنفسه. فالسياسة كما الطبيعة لا تقبل الفراغ وبخاصة في حالة الانهيار او التمزق.
 من أجل قطع الطريق على الانهيار الذي ليس في مصلحة الشعب الفلسطيني. لا مناص من البدء في عملية تجديد وتغيير وبناء. ومن حسن الحظ فإن الواقع الفلسطيني يشهد نوعا من حراك داخلي عنوانه تقدم 36 قائمة للانتخابات. قد تكون مظاهرها سلبية، وربما تكون إيجابية لا تستبعد أن تكون بداية استفاقة. تكون المظاهر سلبية من خلال رفض التغيير وعدم الاعتراف بالأخطاء، ويتعزز السلب بفتح المجال أمام التدخلات الخارجية ومالها السياسي السام الذي تحاول من خلاله خلق بنية تتبيع وتبعية ليس بديلاً للبنية الشائخة وانما بديلاً لقيم الحرية والاستقلال والكرامة. وتكون النتيجة ايجابية اذا ما شُرع بتغيير داخلي ديمقراطي للبنية التنظيمية، تغيير يحقق الإصلاح وينهي طموحات مراكز القوى المتعددة لوراثة الخراب. ان الكم الكبير من القوائم يعكس في أحد جوانبه رغبة النخب السياسية في التغيير والخروج من فوبيا نجاح «حماس» وسقوط «فتح» وبالعكس، أو وراثة السلطة او تقاسمها. أصبح المطلوب ليس استبدال سيطرة بأخرى او استبدال علاقات سيطرة بعلاقات سيطرة، بل انفتاح على المجتمع وإشراكه في التحرر والبناء وفي تغيير البنية السياسية والاجتماعية وتهيئتها كي تستطيع حمل مشروع التحرر والبناء الديمقراطي. بدون وصاية.
 التغيير ليس كلاماً يقال ولا رغبة البعض في اقتناص فرص الصعود الى امتيازات النخبة، بل هو رؤية ومشروع تحرر وطني لا مكان فيه لشركاء الأجندات المعادية بصرف النظر عن مسمياتهم المخادعة، والتغيير بحاجة الى بنية مستقلة غير فاسدة، منطق الامور تنحي واستقالة معظم رموز الفشل الوطني والسياسي والاقتصادي والديمقراطي، وإفساح المجال أمام عقول جديدة قولاً وعملاً. التغيير بحاجة الى ممارسة قبل وأثناء وبعد الانتخابات، حيث يتم التعرف على المرشحين من خلال افكارهم والمعارك التي خاضوها وقدرتهم على التجديد واجتراح الحلول، ومن خلال التزامهم بمعايير غير ملتبسة للوطنية والديمقراطية، وبمدى التزامهم بمنظومة قوانين لا تميز ضد نصف المجتمع من البنات والنساء، والتغيير بحاجة إلى نظام تعليم تحرري على النقيض من نظام التعليم الذي يكبل العقول بالقيود والمحرمات ويحظر النقد والسؤال، وبحاجة الى ضمان اجتماعي يحمي العاملين، وقانون عمل ينطلق من مصالح العمال، ومن حريات خاصة وعامة، ومن مكافحة حقيقية للفساد بأثر رجعي، وكذلك نظام قضائي مستقل، ومؤسسات تعبر عن مصالح المواطنين ومنبثقة من حاجتهم لها.  التغيير يعني الانتقال من اقتصاد ريعي تابع الى اقتصاد تعاوني منتج . هذا الكلام ليس مثالياً ولا يتحقق مرة واحدة بل يحتاج الى ردح طويل من العمل الدؤوب. عمل يبدأ بوضع نواظم ومبادئ وأفكار وأهداف، ثم يصار الى ترجمتها بالتدريج. فالديمقراطية يصنعها ديمقراطيون والحرية يصنعها أحرار، ومكافحة الفساد يخوض فيها الشرفاء الذين لم تتلوث أياديهم بالفساد. الخلط بين الشيء ونقيضه وتعويم المواقف بدعوى ان تحقيق ذلك بحاجة الى وقت، يعني صراعاً على مراكز السلطة.