قلنا إن الدولة الإسرائيلية تزداد صراحة، وتقل حياءً، في التعبير عمّا تريد. وإن هذا ناجم عن صعودها كقوّة إقليمية، وأفضليتها في حسابات الطغاة العرب على القوتين التركية والإيرانية لأسباب مختلفة. وهذا، في الواقع، موضوع معالجة اليوم، التي تتمثل في محاولة التفكير في أمر لا يحظى بما يستحق من أهمية، بل ويكاد لا يُذكر، وإن ذُكر فغالباً بطريقة مُضللة.
المقصود أن الصراعات والتحالفات بين الدول لا تنشأ، بالضرورة، نتيجة حسابات موضوعية مادية باردة وحسب، بل تتأثر بعوامل ضغط ثقافية (على مستوى الرموز) وتاريخية (على مستوى الذاكرة) ونفسيّة سياسية (على مستوى توفّر، أو غياب، عناصر إشباع أيديولوجية تصلح للتفسير والتبرير) أيضاً. وأن هذه الأشياء كلها قد تتفوّق على الحسابات الموضوعية والباردة.
الأمثلة كثيرة: ذهاب عبد الناصر إلى الحرب عام 1967، التدخل السوفياتي في أفغانستان 1979، وحرب السعوديين في اليمن المستمرة منذ ست سنوات. وفوق هذا كله، حروب أميركا بعد الحادي عشر من أيلول، وحربها في الهند الصينية، التي انتهت بالهرب عن سطح السفارة في سايغون.
تصدق على هذا كله عبارة المؤرخة الأميركية باربرا توخمان «مسيرة الحمقى: من طروادة إلى فيتنام»، التي وضعتها عنواناً لأحد أهم كتبها في هذا المجال. وهي، بالمناسبة، صاحبة «الكتاب المقدس والسيف: بريطانيا وفلسطين من العصر الحجري حتى وعد بلفور»، الذي يُعتبر شهادة إضافية على ما ذهبنا إليه في موضوع عوامل الضغط الثقافية والتاريخية والنفسية - السياسية.
على أي حال، لا نملك حتى الآن تحليلات كافية عمّا أسماه مالكولم كير «الحرب الباردة العربية» قبل خمسة وخمسين عاماً، رغم أنها ما زالت مستمرة. وأغامر حتى بالقول إنها تفسّر «سلام إبراهيم»، وما لحق بالحواضر من خراب، وأفضلية إسرائيل في نظر الحلف العرباني، وتوابعه حتى في حواضر سادت ثم بادت، على الأتراك والإيرانيين.
بيد أن ما لدينا مما تراكم من التاريخ والمعرفة يكفي للقول، إن الخوف والغيرة عناصر مُهددة تماماً، وفي حالات كثيرة أكثر فاعلية من حسابات عقلانية باردة، في منطقة وجدت نفسها على مفترق طرق الإمبراطوريات، وفوق حراك صفائح جيولوجية عميقة لأيديولوجيات، وأسواق، وثروات، وديانات، وخطوط مواصلات، ورهانات كونية، لم تكف عن توليد الزلازل حتى يوم الناس هذا.
كنتُ في بغداد أيام سقوط الشاه، وتولّد لدىّ في تلك الأيام انطباع من نقاشات طويلة، بل وقد تودي إلى التهلكة، مع بعثيين من مستويات مختلفة، أن الفرق بين انقلاب عسكري (لا ثورة ولا ما يحزنون) جاء بهم إلى السلطة، وثورة حقيقية، بملايين البشر في الشوارع، أسقطت الشاه، (وجاءت بنظام جديد لم تتضح معالمه بعد) في صميم كل ما يبدونه من كراهية لإيران ما بعد الشاه، ويغلّفونه بالكلام عن العروبة، والكلام الفاضي عن البوابة الشرقية، والخطر الفارسي. كانت الثورة الحقيقية فضيحة الثورة الكاذبة.
من الحماقة والهبل الاستنتاج بأن كاتب هذه السطور يتعاطف مع النظامين الأردوغاني والإيراني. ولكن من الحماقة والهبل غض الطرف عن حقيقة أن في هوية وماهية النظامين الأوتوقراطيين الإيراني والتركي ما يُحرج أنظمة الاستبداد الأوتوقراطية العربانية ويُخيفها. فكلاهما يعترف بالمواطنة، والبرلمان، والدستور، والمعارضة، والأحزاب، والانتخابات، وحرية التعبير (بصرف النظر عن الخصوصيات والكذب). وهذا كله (حتى مع الخصوصيات والكذب) ما لا يتوفر في الأنظمة المعنية، وما تخشى منه، ولا تخشى عليه.
ولكن إسرائيل أكثر، وأصدق، ديمقراطية بالتأكيد (ومع الخصوصيات والكذب، أيضاً) من الأوتوقراطية الأردوغانية والإيرانية. فكيف نفسِّر، إذاً، أفضليتها على النظامين المذكورين في نظر حلفائها الجدد في العالم العربي فوق الطاولة، وتحتها؟ لا يحتاج الأمر، في الواقع، إلى كثير عناء للعثور على تفسيرات تبدو مُقنعة في هذا الصدد.
فهوية وماهية النظامين الأردوغاني والإيراني بضاعة ترتبط قابليتها العالية للتسويق بمكان ومكانة النظام في الإقليم، إن صعد صعدت، وإن هبط هبطت (كما كانت الناصرية «اقرأ: الجمهورية، القومية، الوحدة، فلسطين» قبل وبعد 67). ولها، بالتالي، قيمة إستراتيجية في مشروع القوّة الإقليمية، وزعامة كينونة غامضة اسمها الأمة الإسلامية. وهذا مصدر خوف وقلق.
أما مشروع القوّة الإقليمية الإسرائيلية فلا حمولة أيديولوجية له، ما عدا سلام السوق، والمصاري، وهي أفضل حتى من الأميركيين، الذين قد تجد بينهم من يتكلّم عن مقاطعة بضائع المستوطنات، مثلاً، أو يتذكّر من وقت إلى آخر، «سخافات» من نوع حقوق الإنسان، وضرورة التحديث، والإصلاح، بما يكفل المزيد من الحريّات، ويحد من التطرّف، وكلها دعوات تصيب الأوتوقراطيات العربانية بالمغص وأوجاع الرأس. ناهيك، طبعاً، عن حقيقة أن من يكسبهم يكسب الأميركيين، أيضاً. يعني ادفع ثمن واحد واحصل على الثاني مجاناً.
وبهذا المعنى، تمثل القوّة الإسرائيلية وسيلة إيضاح حيّة للتدليل على أولوية البزنس على كل شيء آخر، في «عالم جديد شجاع» فعلاً: السرقة فيه هي النزاهة، والكذب هو الحقيقة، والحرب هي السلام، والظلم هو العدل. وهذا كله تحت أضواء النيون، والألعاب النارية، والطائرات المسيّرة، ووطنية الذباب الإلكتروني، وسعادته الغامرة، في فضاء افتراضي مديد وسعيد.
وعلاوة على هذا كله، وبما يشبه «الكريمة» على «الكيك»، أثبت الإسرائيليون براعة في استخدام القوّة، فعلاً، وهذه ميزة لا تقدّر بثمن في عالم يعبد القوّة. يخاف ولا يستحي. أما هوية وماهية نظامهم فليس فيهما ما يثير خوفاً أو غيرة لدى حلفائهم الجدد فوق الطاولة، وتحتها، بل فيهما ما يبرر الإعجاب. من قال إن الكولونيالية مكروهة في كل مكان، وبالقدر نفسه من الصراحة والصدق؟