استضاف الصديق «زياد خداش» في عاموده الأسبوعي الصديق «وضاح زقطان»، ونشر له نصوصاً عن ذاكرته في المخيم، منها قصته مع الثلاجة: «دخلت المخيم كهرباء متعثرة وضعيفة.. كان ذلك في العام 65 اشترى جارنا الحاج أبو علي مروحة، وتورط أبي بثلاجة قصيرة كانت طولي أنا طفل الصف الرابع. ثلاجة من نوع (أجينس) أحضرها أبي من أريحا...
عندها ملكنا العالم، لدينا قوالب ثلج في البيت.. وحتى أثبت لصف المدرسة أن هناك ثلجاً في العالم.. كنت أمرر قالب ثلج صغيراً على خدود أقراني في (الترويحة). ثلاجة (أقساط) غيّرت حياة جهنم وأصبحت حديث العامة (شربنا مي باردة عند دار الأستاذ خليل)».
وفي جلسة دردشة في مقهى الانشراح فتحتُ مع وضاح نافذة تطل على ذكرياتنا القديمة، وبالذات على دهشة الاكتشافات الجديدة، وكيف تعامل أبناء جيلنا معها بكل عفوية وسذاجة.
مما قاله وضاح: في مخيمات أريحا، نصبت وكالة الغوث شاشة سينما في ساحة عامة، خصصت يوم الأحد للنساء، وبقية الأيام للشبان، كانت قمة الإثارة عندما نقف رافعين أيادينا في ممر الضوء المنبعث من «البروجكتر» قبل أن ينصبّ على الشاشة، فنظهر وكأننا جزءاً منها، ثم نجلس منبهرين أمام أفلام فريد شوقي، نعدد اللكمات التي يهوي بها على أعدائه الأشرار، ونصفق له بكل حماسة.. في اليوم التالي نتحدث باللهجة المصرية «إزيك»، «عامل إيه».. ظلت السينما بكل مجدها إلى أن أطاح بها التلفزيون.. أربعة تلفزيونات موزعة على أربعة مقاهٍ، يجلس الشبان والكهول ساعات أمامها، وفي آخر الليل يغيظون زوجاتهم وعائلاتهم، ويقصون عليهم ما رأوه من عجب عجاب على الشاشة الفضية.
في حارتنا الطيبة في صويلح، كنا ربما أول من اقتنى التلفزيون في بداية السبعينيات، كان الجيران يأتون فرادى وزُرافات لمشاهدته، يوم الأحد مخصص للمصارعة، فكانت الصالة لا تتسع للضيوف.
بعد انتشار التلفزيونات، كان انبهارنا الأكبر بالرجل الآلي «إستيف أوستن»، في اليوم التالي من عرض المسلسل، نتقمص شخصية البطل الخارق، نحرك أطرافنا بالتصوير البطيء، مع ترديد بعض الكلمات الأجنبية التي التقطناها، وهي في الغالب شتائم، ونحن على قناعة بأن أطرافنا صارت فولاذية، وبوسعنا هزيمة أي وغد في البلدة.
في تلك الفترة صار عندنا «بانيو» و»دوش».. فصرت أحكي للأولاد عن هذا الاختراع الرهيب.. تقف وحيداً دون مساعدة من أمك، فينزل عليك الماء دافئاً من السقف، وبوسعك ملء البانيو بالمياه فتحصل على بحيرة صغيرة، تسبح بها، وإذا شئت تربي فيها أسماكاً ودلافين.. لم يصدقوني.. حتى وقفت مجموعة منهم على طاقة الحمام، ليروا بأعينهم كيف تستحم دون «طشت»، وظلوا ينتظرون الأسماك.
سبق الانبهار بالبانيو انبهار آخر في زمن أسبق، تمثل بتلك الخطوة الجريئة حين اقتنع البعض بأهمية أن يكون الحمّام داخل البيت، معقول يا أبو محمد مرحاضك جوه البيت!؟ فيجيب أبو محمد: عليك أن تجرب نعمة الاستيقاظ في عز الليل، فلا تضطر للخروج بعيداً في عز البرد، ولا تلمّس العتمة بحثاً عن إبريق الوضوء.. وكان على الجيران أن يأتوا بأنفسهم للتفرج على الحمام الإفرنجي، ولكن بعيون مرتابة.
لنعد بالزمن أكثر، في ثلاثينيات القرن الماضي زار عليان مدينة اللد، وعند عودته للقرية سأله مصطفى (وكان في الصف الثالث) عن أكثر شيء أبهره في المدينة، فأجابه: «مَية في الحيط، عمرك كريت؟!»، في إشارة للحنفية.
حتى عقد الثمانينيات، كان امتلاك أي بيت للتلفون يعني اعتراف الحي بأن أهل ذلك البيت صاروا من طبقة «الإيليت»، أو عندهم وساطة قوية في الدولة.. أول تلفون اقتنيناه كان موصولاً بسنترال مركزي، ترفع السماعة وتطلب من موظف السنترال ربطك مع دار أبو فريد، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فإما الخطوط مشغولة، أو يسألك الموظف: لماذا تريد أبو فريد؟ ألا تعلم أنه ينام مبكراً.. المهم أن دوام السنترال ينتهي في الثامنة مساء، فتدخل التلفونات في مرحلة بيات حتى صباح اليوم التالي.. وما أن نسمع جرس الهاتف، حتى يتسابق كل من في البيت على الرد بفرح وفضول: «ألو»..
سيظن البعض أن الانبهار بالجديد والمختلف يقتصر على الماضي البعيد.. وهذا غير صحيح.. في مستهل التسعينيات اشترى صديقنا مروان بركات جهاز كمبيوتر، ذهبنا إلى الرصيفة لزيارته والتعرف على الجهاز عن قرب.. قابلتنا والدته الطيبة بابتسامة ترحيب وحفاوة: مروان مش هون، بس اتفضلوا عالكمبيوتر، هيه في الصالون.. حين عاد مروان، أخذ يشرح لنا عن تقنية جديدة اسمها الإنترنت، مؤكداً أنها ستغزو العالم، وربما تصل الأردن إذا نجت من المخابرات.
وفي أواسط التسعينيات، وفي قصة مشابهة، اشترى صديقنا «مراد» جهاز كمبيوتر.. وكنا حينها نسكن قرية جميلة بالقرب من نابلس، ظل مراد على مدار شهرين كاملين وهو يستقبل يومياً شباب وكهول القرية الذين أتوا للتفرج على الكمبيوتر.. كان يصفه لهم كما لو أنه مندوب «الناسا»، ويستعرض أمامهم «السماعات الخارجية»، و»الكيبورد»، أو يكتب أسماءهم الرباعية لتظهر على الشاشة ملونة بخط أنيق، وهي تنتقل من يمين الشاشة إلى يسارها بخفة ورشاقة، فيصفقون فرحين.. ثم يدس قرصاً مدمجاً ليفاجئهم بصوت نجوى كرم.. مؤكداً لهم بأن جهازه أحسن من المسجل والتلفزيون معاً.
وربما تذكرون انبهارنا بالقنوات الفضائية في أوائل التسعينيات.. في البداية كان شراء طبق لاقط يحتاج موافقات أمنية، إلى جانب توجس البعض من اقتنائه، خشية اتهامهم بمشاهدة أفلام السكس.. في نفس الفترة أخذت الهواتف النقالة تظهر، وكانت في البداية مقتصرة على كبار الضباط والأثرياء.. وكان حسين حينها مراهقاً، وكلما مر قبالة مدرسة البنات حتى يُخرج هاتفه ويقربه من أذنه ويتحدث بصوت مرتفع، ليوهم المعجبات بأنه يتلقى مكالمة على درجة كبيرة من الخطورة من شخص مهم.
كان كل جديد يبهرنا ويدهشنا، ويدخل فينا المسرات.. اليوم، مع الثورة الانفجارية للمخترعات من أجهزة وأدوات ومقتنيات ليس لها أول ولا آخر.. نفتش عمّا يبهرنا.. نشتاق إلى شيء ما غامض، لا نعرف ما هو، لكننا نريده مدهشاً.. الدهشة متعة نفتقدها بشدة.