منذ يوم أمس بدأت الوفود حزم حقائبها نحو القاهرة للحوار الأخير الذي سيحدد مسار المصير الفلسطيني الذي تعثر كثيراً.
غداً سيبدأ هذا الحوار على التفاصيل بكل ما يتعلق بالانتخابات وإذا ما فشل هذه المرة هذا يعني أن لا أمل في القوى القائمة، أما إن نجح فذلك يعني أن الفصائل تأخرت 14 عاماً لقضية لم تكن تحتمل ترف ضياع يوم واحد.
العقبات في الطريق لا تزال كبيرة ليس أولها وآخرها المنظومة القانونية والرقابة بل حسابات الربح والخسارة التي بدأت مباشرة بعد صدور المرسوم الرئاسي، وهي الحسابات التي حالت على امتداد سنوات الترف الدامي الماضية دون نجاح في هذا المسار.
والآن لا يحتاج المرء إلى معلومات كي يدرك أن الحسابات هذه المرة بالنسبة للقادة لا تحتمل خطأ واحداً لأن ذلك يعني خسارة كبيرة لا يمكن التراجع عنها كما المرات السابقة عندما كان هناك هامش كبير للمناورة والتهرب.
كيف ستُجرى الانتخابات في ظل سيطرة كل طرف على منطقة سيطرة مطلقة؟ هل سيتفقان على أن يثق كل بالآخر بأجهزته الأمنية.
وإذا كانت الأجهزة في الضفة الغربية هي أجهزة السلطة الرسمية المنوط بها رقابة وحماية الانتخابات هل ستثق السلطة بأجهزة حركة حماس؟ هل ستطالب بعودة أفرادها للقيام بذلك الدور قبل إجراء الانتخابات؟ وهل ستقبل حماس بهذا وتسمح بعودة أجهزة الأمن؟ قد يجدون لها حلاً.
ولكن الأبرز كما دلت التجربة ليس العملية نفسها ولكن ما بعدها.
فقد أدار الفلسطينيون قبل عقد ونصف العقد واحدة من أكثر عمليات الانتخاب نزاهة وشفافية في المنطقة، لكن الكارثة حصلت بعدها إذ إن النتائج التي ظهرت كانت تمهد الطريق لحرب أهلية استخدم فيها السلاح حيث تساوت التوازنات بفوز فتح بالرئاسة وحماس بالبرلمان وكذلك التوازنات العسكرية وكانت مدعاة لكل ما حدث من صراع، والآن مازالت التوازنات على حالها، ماذا سيحدث لو فازت حركة فتح وتمكنت من تشكيل الحكومة أغلب الظن أنها ستطالب أن تكون غزة كما الضفة سلطة واحدة وسلاحاً واحداً كما كررت دائماً كيف سترد حينها حماس؟
وفوز «حماس» وارد لأسباب متعددة ليس أولها أن هذا الفوز سيصد رياح التغيير القادمة من واشنطن والعالم بعد فوز بايدن وتشكيل فريقه الذي بدأ يعلن مواقف ليست مريحة لإسرائيل كالاستيطان وهدم البيوت وسيطور الأمر للضغط باتجاه مفاوضات، بل والأهم لتآكل الحركة الوطنية وعمودها الرئيس حركة فتح، التي يجري الحديث عن أكثر من تكتل سيتنافس ربما إذا لم تنجح في توحيد ذاتها قبل تقديم قائمتها للانتخابات قبل نهاية نيسان.
وهناك مؤشرات على انخفاض نسبة التصويت في الضفة وهذا دوماً لصالح القوى الدينية التي تستنفر كتلتها التصويتية للحد الأقصى باعتباره واجباً دينياً ما يعني أن الانخفاض سيكون على حساب القوى الوطنية والعلمانية ولأن الكتلة التصويتية الأكبر هي في الضفة 60% مقابل 40% لغزة هذا يعني أن غزة لا ترجح مهما ارتفعت نسبة التصويت فيها.
كيف ستوفق القاهرة بين رغبتها بإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وإنجاح المصالحة والانتخابات وبين عدم رغبتها بفوز حركة حماس الذي تراه خياراً وارداً في ظل وضع السلطة وحركة فتح، فلم تقدم السلطة ما يثير الإعجاب ليس لأن حركة حماس هي النقيض التام للدولة المصرية بل لأن في فوزها ما يعرقل الدور التاريخي الذي تلعبه مصر إلى جانب الفلسطينيين وهو دور سياسي كان داعماً للمفاوضات مع إسرائيل.
فالدور الذي تقوم به مصر بين حماس وإسرائيل هو دور الإطفاء لكنها تدرك أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى ما هو أبعد من عربات المطافئ.
في إسرائيل يراقبون التطورات في الساحة الفلسطينية بحذر شديد. فقط ما يرشح من هناك هو آراء لبعض الكتاب التي تتساءل عن إقدام الرئيس الفلسطيني على هذه الخطوة ومدى جدية إجراء الانتخابات في ظل استطلاعات رأي لا تعطي لحركة فتح ذلك التفوق المطلوب لتسيد النظام السياسي، لكن المستوى الرسمي في إسرائيل يلتزم الصمت وفي هذا الصمت ما يثير الريبة إذ إنها تجري حساباتها بدقة شديدة إذا ما كانت هذه الانتخابات ونتائجها التي تستطيع معرفتها مسبقاً فمراكز استطلاعات الرأي في إسرائيل دقيقة ولديها خبرة كبيرة إذا ما كانت النتائج في صالحها ستسمح بإجرائها أما اذا كانت في غير صالحها ستعرقلها بأي وسيلة ليس فقط بموضوع القدس بل لديها وسائل أخرى.
قدرة إسرائيل على التأثير على النتائج أيضاً لا يستهان بها، فهي التي تتحكم بكل شيء تسمح أو تمنع الأموال، تشعل حرباً على غزة وتقلب النتائج أو بأقل من ذلك يحتاج الأمر تصريحاً واحداً للتأثير على الناخب، فمن يذكر حين طالب شارون الفلسطينيين بعد أن سمح بإجراء الانتخابات في القدس بألا ينتخبوا حركة حماس، ومن الطبيعي أن يكون سلوك الفلسطيني على النقيض من ذلك حين يصدر هذا الأمر من جزار صبرا وشاتيلا وجنين.
وتلك مسألة ليست بالأمر السهل فهذه دولة تحسب كل شيء وتعرف كيف تتصرف فالقرار فيها ليس عشوائياً بل وليد مراكز أبحاث ودراسات تعرف كيف تحسب مصالحها الاستراتيجية بدقة شديدة وينفذها المستوى السياسي إما فعلاً أو قولاً حين يتطلب الأمر والدعاية الانتخابية لا تحتاج أكثر من القول.
وهذه التساؤلات والملاحظات تتعلق بالعملية الإجرائية لاختيار مجلس تشريعي ورئيس للسلطة الوطنية. ففي انتخابات المجلس الوطني ما يثير الشك بالنظر لحالة الشتات الفلسطيني، اذ يصبح الأمر منوطاً بدول متعددة وهي كثيرة. لكن الانتخابات التي تجري للسلطة الوطنية إن تمت ونجحت لا تكفي للإجابة عن تساؤلات المستقبل الفلسطيني فهي انتخابات في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني والمحكومة بالسيطرة الإسرائيلية على الغلاف الفلسطيني أي انتخابات ببعدها الخدماتي وهو محل الدعاية الانتخابية إذ إن شعارات التحرر الوطني ستبدو بعيدة عن الواقع بعد التجربة الماضية فماذا عن مشروع الاستقلال.
هنا مأزق أكبر ربما سيبدأ التفكير به إن جرت الانتخابات وخاصة بعد أن ذهب الفلسطينيون منذ سنوات وتحديداً العام 2014 الى أقصى طاقتهم في الحرب «عدوان 2014» وفي السلم «مبادرة كيري» ولم يحققوا شيئاً، هنا يصبح التفكير بالمأزق الفلسطيني الأكبر هو المهمة الأولى، هناك تغيرات دولية يمكن الاستفادة منها ولكن هذا يحتاج إلى مؤسسة قادرة على تحويل كل تلك العوامل إلى برنامج وهذا يعيد الفلسطينيين إلى نقطة الصفر وهي نقطة بناء المؤسسة فهل سيتمكن حوار القاهرة من الإجابة عن كل هذه التساؤلات، الواقعيون حذرون في التفاؤل لكن يبقى الأمل كبيراً أن يكون غداً يوماً فارقاً في حياة الشعب الفلسطيني وهذا ممكن رغم صعوبته لأن نجاحه يعني نجاح الجهاد الأكبر والجهاد الأصعب جهاد النفس التي ستترفع عن المصالح الصغرى لشعب أعيته كثيراً التجارب العابثة.