بعد ألف عام، سيكتبون سطوراً عن مفرقعات صوتية ونارية ألقاها مأفونون في كنيسة البشارة.. لكنهم، بعد ألف عام، سيؤلفون كتباً دسمة وفاخرة، عن معمارية هذه الكنيسة.
لكل كنيسة ومسجد ومعبد وكنيس أقدمياته في التاريخ، وربما درجة قداسته لدى طوائف شتّى من المؤمنين؛ وله، كذلك وبما لا يقل أهمية، تصنيفه المعماري، ودرجة جماليته الخارجية منها والداخلية، وأحياناً حجمه وضخامته.
لتلك الكنيسة في الناصرة مكانتها الدينية، التي تلي كنيسة وتتقدم أخرى. ليست قبة كنيسة البشارة تضاهي قباباً عديدة لكنيسة «القديس فاسيلي»، في «الساحة الحمراء» بموسكو، على مبعدة قليلة من أسوار الكرملين، وليست جدرانها الخارجية بالغة الزخرفة الثقيلة (نمط المعمارية القوطية) التي لكنيسة «نوتردام - دو – باري» الباريسية، ولا لأعمدتها الداخلية ضخامة أعمدة كنيسة «ويستمنستر» اللندنية.
.. وأخيراً، لن أقارن، تاريخياً وقداسياً، بين أهم ثلاث كنائس في فلسطين (المهد، القيامة، والبشارة). لكنني أنحاز، جمالياً لكنيسة البشارة، ذات المعمارية المتميزة، بما يمنح جوّانيتها رحابة كأنها سماء أرضية صغيرة.. ومنيرة، ليس بكثرة الشموع أو أضواء الثريات، لكن، وأولاً، بإضاءة طبيعية أيضاً (ضوء النهار Day Ligth).

يرفع قبتها العديد من الأعمدة الخرسانية «الحافية» من كل إضافة أو زخرف. أعمدة ترسم مع القبة زاوية منفرجة، مثل يدي المؤمن المبتهل، أما أيقوناتها العديدة على جدرانها، فهي هدايا من أربعة أركان الأرض، وموزعة توزيعاً متساوياً ومتسقاً.
لقد تم اختيارها بعناية وذوق رهيف من كنائس تنتشر من موسكو إلى حاضرة الفاتيكان، فإلى جنوب إفريقيا.. والفيلبين وأميركا.
قد يجد الباحث المعماري في معمارية كنيسة البشارة حقبة معمارية حديثة في بناء الكنائس في غير مكان، لكن، لا أدري عن كنيسة مثل كنيسة البشارة الحديثة، التي تحوي، في أسفل صحنها الداخلي، كنيسة البشارة القديمة والصغيرة، المتواضعة معمارياً وغير المتواضعة أبداً في تاريخيتها ومكانتها الدينية.

في صحن الكنيسة الداخلي، يسكنك سلام داخلي: الرحابة والجمال.. وتلك «الأخوية الإيمانية» التي تجسدها أيقونات جميلة من أربعة أركان الأرض.
يمنحك الصحن الخارجي الرحيب للمسجد الأموي بدمشق نوعاً من السكون، كما تمنحك الصور السياحية الشهيرة لمعمارية مسجد «تاج محل» في بلاد الهند سلاماً خارجياً، وانسجاماً مع الفضاء المفتوح.
أما مسجد قبة الصخرة في القدس الشريف، فلعله مكان عبادة نادر في جمعه الإحساس بالسلام الداخلي وبالسلام الخارجي، حيث الصحن الفسيح، أو ساحة الحرم، تعطي لتلك القبة المذهبة مجالها كأنها تختصر، وقت الغروب والشروق خاصة، قبةَ السماء من الأفق الى الأفق.
* * *
قبل أن يرحل بسنوات، حدثنا إميل حبيبي، في نقد ذاتي غير نادر لهذا الأديب والمناضل، كيف أنه وصحبه كانوا على غلط، عندما ناشدوا بابا الفاتيكان أن يوجه بعض الأموال المرصودة لكنيسة البشارة الجديدة إلى أمور رأوها أكثر نفعاً للناس.
تستحق الناصرة كنيسة حديثة، هي تحفة معمارية أيضاً، تحتضن تلك الكنيسة الحجرية الصغيرة. لماذا؟ إذا ذكرت دمشق ذكر مسجدها الأموي، فإن ذكرت القدس ذكر حرمها القدسي الشريف، وللقاهرة أزهرها، ولتونس جامع الزيتونة، ولروما الفاتيكان. تُعرف المدينة بصرحها المعماري أو بصرحها الديني.. أو بالاثنين معاً.
* * *
هل كان باروخ غولدشتاين عصابياً أو مأفوناً؟ ولكنه كان قاتلاً وسفاحاً في الحرم الإبراهيمي.
هل كان مايكل روهان مأفوناً أو مجنوناً؟.. ولكنه كان مخرباً ومعتدياً على المسجد الأقصى.
هل كان الياهو مصروعاً أو مجنوناً؟ ولكنه كان مجرماً في كنيسة البشارة.
.. وأيضاً، أولئك الذين يخوضون حروبهم المذهبية في أمكنة العبادة وضدها.
من لا يسكن السلام الداخلي روحه، عبثاً يحاول الانتقام من نفسه بالانتقام من سلام الآخرين مع أنفسهم ومع عباداتهم، ودور العبادة.
***
بعض المرضى يسطون على ما لا يستطيعون امتلاكه. وبعضهم الأكثر مرضاً يخربون ما يغارون على امتلاك الآخرين له.. وبعضهم من المصروعين يعالجون صرعهم بما هو أدهى، لأنهم يحقدون على سلام الآخرين مع أنفسهم.

نقلا عن صحيفة الايام