بكل المقاييس والأبعاد والاعتبارات فإن إجراء الانتخابات في المواعيد المحددة في مراسيم الرئاسة يعتبر إنجازاً وطنياً كبيراً، وذلك بالنظر إلى كونها استحقاقا طال انتظاره، وفي كونها فرصة مهمة لإعادة بناء النظام السياسي على أسس من الشرعية والديمقراطية والاستقرار المطلوب.
وهي فرصة أيضاً لتجديد كل شرعيات هذا النظام، وربما المساهمة في إنهاء الانقسام، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الشراكة الوطنية، لمواجهة التحديات التي تتمثل داخلياً في إعادة توحيد المؤسسات الوطنية، وفي إعادة توحيد الوطن في إطار إعادة الاعتبار لوحدة القضية والشعب، وفي مواجهة الأخطار على الحقوق الوطنية وعلى المشروع الوطني التي يمثلها هذا المشروع ويعمل لتحقيقها.
في هذا الإطار فإن التفاهمات بين حركتي فتح وحماس، ثم الترحيب الواسع من كل الفصائل الوطنية بإجراء الانتخابات خصوصا وفق الدائرة الوطنية والتمثيل النسبي الكامل، تعتبر كلها علامات ومؤشرات إيجابية على طريق طويل لتوحيد الحالة الوطنية برمتها، وتكريس وتعزيز الصمود الوطني، وتحصين وترتيب البيت الفلسطيني.
إن سارت الأمور وفق هذا النهج والمنطق، فمن المؤكد أن الإنجاز سيكون عظيماً، والمكتسبات كبيرة، والنتائج المرجوة واعدة.
تعلمنا التجارب السابقة أن هذا النهج وهذا المنطق ليس الاحتمال الوحيد، أو الإمكانية المحتومة بالضرورة، مع أنها باتت الأكثر ترجيحاً، أو أنها باتت مرجحة أكثر من أي وقت مضى على مدى أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الانقسام، ولعل الأسباب الخارجية هنا هي المقصودة بالذات. وهي بالذات ما يمكن أن تؤدي إلى انتكاسة كامل العملية الديمقراطية.
أين تكمن المخاوف، وهل توجد مخاوف مشروعة وأخرى غير مشروعة؟
من بين أكبر المخاوف غير المشروعة الاعتقاد بأن الارتداد التام عن إجراء الانتخابات وإدارة الظهر لكل ما تم الاتفاق عليه، والتوافق حوله ـ كما جرى في مرات سابقة ـ بات أمراً سهلاً أو يسيراً ومن دون ثمن سياسي كبير.
فبعد أن رحبت كل الفصائل بإجراء الانتخابات، وبعد أن بدأت إجراءات معينة بالدوران، وبعد ترحيب معظم بلدان الإقليم بما فيها البلدان التي كانت تعارض وتعترض، وبعد الترحيب بها من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والترحيب المرتقب للولايات المتحدة بإدارتها الجديدة، إن لم نقل اشتراط هذه الإدارة لهذه الانتخابات لإعادة «تطبيع» علاقاتها بالسلطة والمنظمة.. بعد كل هذه الأجواء لم يعد سهلا على أحد التراجع عن كل هذا وذلك لأن التراجع في مثل هذه الحالة هو أشبه بالانتحار السياسي.
كما لا يمكن التشكيك المسبق بنزاهة الانتخابات، إذ إن التجارب الماضية أثبتت أن هذه النزاهة كانت في أعلى مستوياتها، وأن لدينا لجنة انتخابات تحظى بإجماع وطني وتوافق تام على دورها وكفاءتها وأدائها ومهنيتها أيضاً.
كما أن من غير المشروع «الجزم» بأن المشاركة في هذه الانتخابات ستكون محدودة أو منخفضة النسبة، وذلك لأن حالة الاستقطاب ما زالت قائمة بقوة في الواقع الفلسطيني، وتعطش الناس للتغيير ماثل للعيان بكل وضوح، بالرغم من حالات لا يمكن إنكارها من الاستياء الشعبي من أداء القيادات والفصائل.
أما المخاوف المشروعة فهي كثيرة وجدية وعلى درجة عالية من الأهمية والخطورة في آن معاً.
التخوف والخطر الأول هو القائمة المشتركة بين فتح وحماس.
من حيث المبدأ لا يوجد لا من الناحية القانونية ولا حتى من الناحية السياسية ما يمنع الوصول إلى قائمة من هذا النوع، خصوصاً وأن التمثيل النسبي الكامل والدائرة الوطنية الواحدة يعطي هذا الحق لكل تكتل أو حزب أو فصيل أو مجموعة بأن تتحالف وتأتلف، وتدخل إلى أي قائمة تراها مناسبة لمصالحها ورؤاها وتوجهاتها. لكن ومن الناحية الواقعية والعملية المباشرة فإن قائمة مشتركة بين فتح وحماس تعني ببساطة أن الانتخابات باتت تحت السيطرة المسبقة والتحكم الفعلي بنتائجها.
ومهما كانت القدرة على اختراق القائمة المشتركة ممكنة بحدود معينة فإن الاختراق لا يمكن أن يغير من معادلة السيطرة والتحكم.
ومهما كانت درجة «الكرم والسخاء» من قبل فتح وحماس بترك مقاعد معينة «للمعارضة» فإن هذه المقاعد لن تتعدى الهوامش التي ستكون فتح وحماس قد توافقتا عليها.
فلو افترضنا أن حركة فتح اتفقت مع حركة حماس على أن يكون لها (أي لفتح) خمسون مقعداً، وأن يكون لحماس أربعون مقعداً فإن المعارضة لن تحصل إلا على ثلاثين مقعداً كحد أقصى لكافة القوى مجتمعة بما فيها قوى المجتمع المدني.
هنا تكون الانتخابات وكأنها لم تجر أبداً، ونكون أمام نفس الواقع بمحاصصة معلنة، ونكون قد أجهضنا الهدف الخاص بإنهاء الانقسام فعلياً، لأن النتيجة الواقعية المتحققة في هذه الحالة هي مصالحة فوقية، فصائلية مع انقسام قائم في واقع تقاسم تعبر عنه الحصص، والذي سيسري في نهاية الأمر على واقع كل مكونات النظام السياسي، بما فيه المنظمة وكافة هيئاتها، وكل السلطة بكل تفرعاتها، وعلى كل مؤسسة من مؤسسات العمل الوطني.
التخوف والخطر الثاني وكنتيجة للخطر الأول فإن المزاحمة على المقاعد «المضمونة» داخل كل فصيل وخصوصاً داخل حركة فتح ثم داخل حركة حماس، وربما داخل الفصائل المتبقية ستحتدم إلى درجة كبيرة مع إمكانية التحول إلى صراعات ونزاعات مكشوفة تخرج عن دائرة السيطرة والتحكّم، إن لم نقل عن المجال السلمي للانتخابات.
الخطر الثالث أو التخوف الثالث هو أن الفصائل ومحاصصاتها وتقاسماتها وصراعاتها على نسبة التمثيل، وعلى المقاعد في مختلف مكونات النظام السياسي وتفرعاته، ستؤدي إلى الهيمنة التامة والكاملة للفصائل على الحياة الحزبية والسياسية في الواقع الفلسطيني، وبما يحيّد أي أدوار وفعالية للمجتمع المدني الفلسطيني، ويهمشه إلى درجة الإقصاء من التأثير في الفضاء السياسي، وفي المجالات الاجتماعية والثقافية تبعاً لهذا التهميش، وبما يخضع مجتمعنا «لديكتاتورية الهيمنة الفصائلية».
الفصائل تؤكد، الفصائل توافق والفصائل تتوافق.. الفصائل ترحب، الفصائل تحذر، والفصائل تقرر.. الفصائل تتحاور والفصيلان يضعان جدول الأعمال.
لا مشاكل للمجتمع عندما تتوافق الفصائل، ولا حل لأي مشكلة من دون هذا التوافق.
إرضاء الفصائل والتراخي يصبح أحد «أهم» الأهداف الاستراتيجية للشعب الفلسطيني وبما يتجاوز كل الأهداف الوطنية.
مصالح الفصائل وحصص الفصائل ومقاعد الفصائل أولاً.
طاعة الفصائل تتحول إلى شيء يشبه طاعة الوالدين، أما إذا عصى البعض هذه الطاعة انتقلنا إلى دائرة الخطيئة والمعصية.
هذا التخوف أو الخطر هو من النوع المحدق والداهم والقاتل لكل حيوية اجتماعية، ولكل تماسك وطني مجتمعي يتصل بالصمود والمنعة والتحصين الوطني. وأخيراً وليس أبداً آخراً العامل والأخطار الإسرائيلية.
بما أننا نعلم علم اليقين أن الانقسام بالأساس هو مشروع إسرائيلي، وبما أن هناك شبه إجماع صهيوني عليه، وبما أن الأزمة الداخلية الإسرائيلية في أوجها ومرشحة للتفاقم، ما قبل الانتخابات الإسرائيلية وأثناء عقدها، وما بعدها فالعامل الإسرائيلي يتربص بالعملية الديمقراطية الفلسطينية عبر بوابة انتخابات القدس، وعبر بوابة المنطقة (ج)، وعبر التدخل «النشط» في دعم المظاهر الرجعية والمتخلفة في المجتمع الفلسطيني، من خلال بوابات العشائرية والحمائلية والإسلاموية والمصالح الخاصة لبعض الأذناب التجارية والاقتصادية الملحقة بمنظومات الاحتلال المتشعبة.
الديمقراطية الفلسطينية الحقّة لن تتحقق واقعياً إلاّ إذا تجاوزت كل هذه التخوفات والمخاطر.