كتب رئيس التحرير:  تستمد القيادة والحكومة شرعيتها بشكل أساسي من التمسك بثوابت القضية الفلسطينية، التي من بينها قضية الأسرى، كقضية مركزية لتظل دائماً في مقدمة الشأن السياسي. لذا، فإن دعم الأسرى وتعزيز صمودهم هو تعزيز للشرعية التي تحتاجها أي قيادة وأي حكومة للاستمرار. 

لا يختلف أحد على أن القيادة الفلسطينية رغم الضغوطات الكبيرة التي مورست عليها دولياً وإسرائيلياً، متحدية قرارات الاحتلال عبر رفض أموال المقاصة لأشهر عديدة هي تمسك بمبدأ أهمية احترام كرامة الأسرى في السجون الإسرائيلية، فلم تُقطع رواتب الأسرى كما يريد الإحتلال، ولم يصنف الأسرى كحالات اجتماعية كما تريد أوروبا، بل بقيت قضيتهم مركزية وجزءاً من معركة الصمود.

جاء القرار العسكري الإسرائيلي بمنع البنوك من صرف الرواتب. والذي يدخل حيز التنفيذ مع بداية العام الجاري. وهنا، لا بد لنا الوقوف طويلاً والتأني قبل أن نصدر أي حكم على أي من الجهات، فملف الأسرى ملف حساس للغاية ولا يزال طافياً على السطح عبر صرف الرواتب والمستحقات الخاصة بهم. حيث باتت إسرائيل تصنفها كمحرّمات، لتأتي بهذا القانون الذي يمنع البنوك العاملة في فلسطين من التعامل مع حسابات الأسرى وصرف رواتبهم. وهذا ربما يُعد مدخلاً لتهديد البنوك بوقف أعمالها أو اقتحامها إذا خالفت هذا القرار. فضلاً عن كونه نافذة للاستفراد في البنوك، وذلك بعدما استفردت في الحكومة سابقاً من خلال خصم قيمة رواتب الأسرى من فاتورة المقاصة بشكل شهري!.

المشهد الآن هو أن البنوك والأسرى في فوهة بركان واحد! والحكومة ما زالت تبحث عن حلول منذ ستة أشهر، فالفلسطينيون اليوم أمام مشهد مُعقد، فلا يُمكن أبداً التنازل عن حقوق الأسرى، وفي نفس الوقت لا يُمكن للفلسطيني أن يُطلق النار على قدميه من خلال مهاجمة البنوك أو اتهامها بإغلاق حسابات أو تجميدها ليترك هذا الأمر عرضة لآلة الاحتلال الإسرائيلي. 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القطاع المصرفي هو العمود الفقري للاقتصاد الفلسطيني، وكلنا نعلم بأنه الجهة التي وقفت الى جانب الحكومة في صرف الرواتب في الوقت الذي تُركت السلطة الفلسطينية وحيدة دون تمويل ولا دعم، وتركوا الحكومة الفلسطينية رهينة للضغط المالي والاقتصادي الإسرائيلي لتكون البنوك هي العون على تجاوز هذه الأزمة وأزمات أخرى كلنا نعرفها، عبر حُزم التمويل التي قدمتها للحكومة، والتي من خلالها منعت انهيار الاقتصاد الفلسطيني، معرضةً نفسها للخطر الاقتصادي!.

في حكاية الأسرى، نحن نرى العزة والكرامة لأناس قدموا أعمارهم وحياتهم من أجل وطننا، وبالتالي فإن كرامتهم هي من كرامة كل فلسطيني صغير وكبير، كما أن إيجاد حل لمشكلتهم أمر ضروري من خلال وضعها على طاولة المفاوضات مع الادارة الامريكية الجديدة سياسياً وأن تكون شرطاً لقبول أي مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، لننقذ بذلك كرامة أسرانا وعنوان صمودنا من جهة، وحماية مقدراتنا الإقتصادية عبر تجنيب البنوك مخاطر لا يحمد عقباها، قد تودي بها الى الإغلاق.

 بالتالي ومن خلال وقفة البنوك تلك تمكن الفلسطيني من استلام جزء من راتبه، فصمد ولو بصعوبة أمام قرارات التصفية الإسرائيلية.

حاولت الحكومة الفلسطينية كسب الوقت من خلال صرف راتب شهر يناير وفبراير للأسرى قبل بداية العام الجاري بأيام حتى ترتب أمورها وتجد حلاً لهذه المشكلة "العويصة"!، فهي وبكل صدق لا تستطيع حماية البنوك من القرار الإسرائيلي، ولا تستطيع حالياً صرف رواتب الأسرى من خلال البريد مثلاً، حيث رُفض هذا الحل من قطاع واسع يمثل الأسرى!.

يقول مسؤولون في السلطة إن رواتب الأسرى ستصرف من خلال بنك الاستقلال الذي يتم العمل على إنشائه، وهو ما أكده رئيس نادي الأسير قدورة فارس حين قال إن جهوداً تبذل لحل مشكلة رواتب الأسرى، مؤكداً أنه خلال أول شهرين من العام المقبل سيتم إيجاد حل، وأن الأمر منوط بتأسيس بنك الاستقلال الذي أعلنت عنه الحكومة، والذي سيتولى الانفاق الحكومي بشكل كامل، بما في ذلك رواتب الأسرى، لكن حسب المعطيات على الأرض فإن هذا البنك لن يرى النور خلال شهرين أو ثلاثة أو أربعة حتى، بل يحتاج لفترة أطول من ذلك ليصير حقيقة على الأرض، ما يعني أن راتب شهر 3 لن يتم صرفه للأسرى عبر بنك الاستقلال!، فكيف سيتم صرفه إذن؟ لا أحد يعلم!.

كان يجب على الحكومة الفلسطينية إيجاد البدائل في أول يوم هددت فيه إسرائيل البنوك، وليس اللعب على وتر الأيام، وهو أمر لم تفلح الحكومة به حتى الآن!. إن وضع الجهاز المصرفي في مقدمة اللهب في أي مرحلة من المراحل هو خسارة مركّبة فلسطينية، فحينها سيخسر الفلسطينيون اقتصادياً من خلال انهيار المنظومة الاقتصادية الفلسطينية، وسيخسرون سياسياً من خلال فرض دولة الاحتلال شروطها على الفلسطينيين، ووطنياً من خلال ترك ملف الأسرى يُنهى!.

ليس من دور البنوك البحث عن بدائل أو مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وحدها، وهي أصلاً لا تمتلك بدائل ولا حلول لهذه الأزمة، بل هي سنَدٌ للقيادة والحكومة وتعزيز صمود المواطنين، فهي لا تملك دروعاً تواجه به قرارات إسرائيل واقتحماتها، وفي نفس الوقت فقد كانت الوحيدة التي وضعت درعاً مالياً أمام الحكومة لحماية الموظفين حين ترك الفلسطيني في الزاوية وحيداً.

الخطر القادم على البنوك العاملة في فلسطين، تلك الوافدة الينا والمستثمرة في فلسطين وتحتفظ بمدخرات بمليارات الدولارات لأبناء شعبنا وتُشغل عدداً كبيراً من الموظفين ولها استثمارات ومشاريع وتقدم تمويلات ومساعدات لمختلف الأفراد والشركات وتركها لمواجهة تلك المخاوف دون البحث عن حلول من خلال مؤسسات فلسطينية سواء بنك أو بحلول سياسية أو تدخل وسطاء هو تخلي الحكومة والقيادة عن أحد الطرفين الهامين، سواء الأسرى أو البنوك، وفي جميع الحالات تُعتبر الحكومة مقصرة في هذا الملف وتتحمل كامل المسؤولية عن أي نتيجة في هذا الأمر.

البنوك غير محمية دولياً وبالتالي فإن مصادرة مبالغ بقيمة أموال الأسرى أمر وارد، في حين يظل شبح الاقتحام والاعتقال بحق موظفي البنوك قائماً، وحمايتها تقع على عاتق السلطة الوطنية بسرعة استكمال التحضيرات لبنك الاستقلال أو بأي طريقة أخرى تحفظ كرامة الأسرى، وتحافظ على البنوك.

نحن مقبلون على أزمة تتطلب الانتباه، بل الأهم معالجتها جذرياً للحفاظ على أسرانا أولا، والحفاظ كذلك على الاقتصاد الفلسطيني وعصبه ممثلاً بالبنوك. على القيادة الفلسطينية البحث عن حلول عملية، وعليها أن تكون هي بوز المدفع، فهذا مكانها الطبيعي وهو واجبها الرئيسي، وبقية الفلسطينيين بمؤسساتهم وكل ما يملكون سيكونون سنداً لهذه القيادة، كما كانوا في كل المفاصل الحساسة، وآخرها الأزمة المالية.

في النهاية، من حق الأسرى وعائلاتهم التخوف مما هو مقبل في ظل هذه الضبابية، ومن حق البنوك أن تتخوف أيضاً في ظل عدم معرفة ما هو قادم، لكن على الحكومة بجميع أجهزتها إيجاد الحل وتبديد هذه المخاوف، وأن لا تكون رواتب الأسرى أو البنوك ضحايا جدد من ضحايا الاحتلال الإسرائيلي.