لا تبدو دعوة الرئيس الأميركي الخاسر في الانتخابات دونالد ترامب لأنصاره في ولاية بنسلفانيا لقلب نتيجة الانتخابات كافية لإشعال حرب أهلية في الولايات المتحدة، ذلك ان نتيجة الانتخابات معلقة بالتصويت في صناديق الاقتراع وليس بأي شيء آخر، وبعد أن فشلت محاولة ترامب الانقلاب على النتيجة عبر القضاء، ها هو يفكر في زج المواطنين الى الشارع، لعل وعسى ان تحدث فوضى، تمنع خروجه من البيت الأبيض.
رغم ان رد فعل ترامب على خسارته، برفضه الاعتراف التقليدي بالخسارة، كان مفاجئاً، بالنظر الى ما تعارف عليه المرشحون السابقون الخاسرون، وكان غريباً، ربما عبر عن صدمة الرجل، أو حتى عن طبيعة شخصية، تنحو نحو الاستبداد الذي يسم أصحابه بالتشبث بالسلطة بالقوة، إلا ان المسار القضائي الذي سار عليه، أكد بأن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات، ورغم ان نظامها الديمقراطي نظام رئاسي، الرئيس فيه لديه سلطات واسعة، فهو يعين حكومته وهو يرأسها، وهو فقط يحتاج الى مصادقة الكونغرس على قراراته المصيرية، يشبه الى حد ما النظام الملكي/الدستوري في بعض الدول العربية، على الورق بالطبع، إلا ان النظم نفسه يمنع التحول لنظام حكم الفرد المستبد.
ورغم ان العديد من حكام الولايات جمهوريون، ورغم سطوة ترامب على الحزب الجمهوري التي ظهرت خلال هذه الأسابيع، إلا ان العديد منهم انحاز للنظام العام، واحترم إرادة الناخبين، والتزم فقط بما هو قانوني، لكن مع ذلك أظهر سلوك ترامب وجود نزعة كامنة عنصرية واستبدادية في الولايات المتحدة، يقودها رجل نكاد نعرفه، فهو يشبه كثيراً من هم عندنا من حكام مستبدين، لا يرون العملية الانتخابية إلا مجرد تصويت لهم، وهي لو كانت حيادية، فان النتيجة إن كانت لصالحهم فان عملية الاقتراع تكون نزيهة، وان كانت ليست لصالحهم فهي مزورة!
المهم أن ولاية ترامب خلال أربع سنوات، وقيادته الولايات المتحدة، أخذتها الى التطرف والعزلة، لدرجة أن أصبح لعبة بيد اليمين الإسرائيلي في كل ما يخص ملفات الشرق الأوسط، من الملف الإيراني، الى الملف الفلسطيني/الإسرائيلي، مروراً بملف الحريات في الدول العربية، يتخذ فيه القرارات وفق ما يريد نتنياهو وليس حتى وفق مصلحة إسرائيل، وهذا ما فسرــ ربما ــ أن أكثر من 70% من اليهود الأميركيين قد صوتوا ضده، وخسارته تؤكد بأن المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة رأت فيه ضرراً على مصالح الدولة العليا.
وهذا هو مربط الفرس، لذا سارع جو بايدن الرئيس المنتخب الى التأكيد على ان اميركا قادمة لقيادة العالم، والعودة عن الانسحاب من العمل الجماعي، وانها ستعود للتحالف مع حلفائها التقليديين، والأهم هو ان
إسرائيل وفي مقدمتها بنيامين نتنياهو كانوا يعلمون او يرجحون، أو حتى يتوقعون سقوط ترامب، رغم ان التقليد الرئاسي منذ عقود، عادة ما كان يؤدي إلى نجاح الرئيس المرشح بولاية ثانية.
الرهانات كانت مدروسة وواضحة، لذا فان دفع اليمين الإسرائيلي والمنحازين له في البيت الأبيض، خاصة ديفيد فريدمان ومايك بومبيو، ثم مايك بنس، للتعجيل بحصد ما يمكن تحقيقه من مكاسب قبل خروج ترامب من البيت الأبيض، من هنا بدأت فكرة إعلان الضم مطلع تموز، ثم الدفع بالتطبيع مع دول الخليج والسودان، حيث بدا خلال هذا العام، بل خلال ثلاثة اشهر فقط، وكأن جائحة سياسية انتابت بعض تلك الدول، حيث عجزت الجامعة العربية عن وضع حد لمسيرة انهيار ما كان يسمى بالجدار العربي في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي للمنطقة العربية، إن كان ذلك عبر الاحتلال المباشر، او التوغل العسكري، او السياسي، ثم الاقتصادي.
وكان ذلك تتويجاً لأربع سنوات عجاف، هي فترة وجود ترامب في البيت الأبيض، بدأها بالانحناء للمطلب الإسرائيلي بالخروج من الاتفاقية مع إيران حول برنامجها النووي، وهكذا جعلت إسرائيل من ايران فزاعة لتخويف دول الخليج العربي، حتى تدفعها للارتماء في أحضانها، وكان ذلك يتم الإعداد له وفق طبخة جاريد كوشنير المسماة صفقة القرن، التي كان يهدف من خلالها ضرب عصفورين بحجر واحد، اي إجهاض هدف التحرر وإقامة الدولة الفلسطينية، وعقد التحالف الأمني الإسرائيلي الخليجي.
وقام الثنائي الإسرائيلي/ الأميركي بتسخين نقاط الاحتكاك في الخليج، لإقناع دوله بالصفقة، التي وجدت لها صدى هناك، لكن مقاومة الشعب الفلسطيني أفشلت مؤتمر المنامة العام الماضي، ومنعت حتى مطلع الحالي من إعلان الصفقة، لكن المتابعة العدوة للخطة عززت من الاتصالات بين تلك الدول وإسرائيل التي بقيت طي السرية والكتمان، الى ان أعلن التطبيع الرسمي بين الإمارات والبحرين ومن ثم السودان قبل الانتخابات الأميركية، فيما ترددت السعودية وقطر، في محاولة لانتظار نتيجة الانتخابات، حيث كانت رهانات الدولتين مختلفة تماماً، فالأولى أرادت ان تنتظر إعادة انتخاب ترامب، ليكون معها الوقت الكافي لتهيئة الأجواء لاتخاذ تلك الخطوة، فيما انتظرت الثانية فوز خصمه، للتحرر من الضغط الإسرائيلي بمطالبتها الانضمام لقطار التطبيع.
ملخص القول، إن دول الخليج لأنها ثرية من جهة، ومن جهة ثانية محكومة بأنظمة حكم مستبدة، لا وجود فيها لمؤسسات الدولة المستندة لإرادة الشعب ولا للقوانين العامة، تجعل من سياساتها مرهونة بمصلحة الحكام، لذا فان قرار التطبيع لا يواجه رفضاً شعبياً حاسماً، وخير دليل على ذلك، ان اليمين الإسرائيلي يحاول اصطياد سمكة التطبيع الكبيرة، اي السعودية في المرحلة الانتقالية، حيث سارع نتنياهو لتخويف السعودية بملف الحريات العامة، الذي سيقدم بايدن على فتحه، بعد دخوله البيت الأبيض.
وكل ما يحدث يؤكد مجدداً، بأن الخطر المحدق بالقضية الفلسطينية وبمصالح الشعوب العربية، يأتي من وجود نظام الاستبداد العربي، الذي لن يعجز فقط عن تحقيق التحرر لفلسطين، بل يهدد مصالح الدول العربية فرادى ومجتمعة فقط، ونظام منحاز للفرد والعائلة على حساب مصلحة شعبه لن يكون صديقاً لفلسطين وأهلها، مهما بلغت النوايا والأحلام درجة متقدمة من الوهم والادعاء.