يمتاز المصريون بتفاعلهم مع الأخبار التي تتعلق بسياسة رئيسهم وحكومتهم وبأحداث الساعة، على صفحات التواصل والصحف الإلكترونية، مثل تصريحات للرئيس أو لوزير أو لمسؤول في إدارة الأزمات مثل، كورونا والفيضانات والأبنية المتهالكة، وما يجري على ساحة كرة القدم، خصوصاً ما يتعلق بالأهلي والزمالك، وأخبار النجوم والفنانين، التي كان آخرها خبر محمد رمضان، وصورته معانقاً فناناً إسرائيلياً في دُبي.
أستمتع بهذه المتابعة مرتين، أولا بالبداهة والظرافة وخفة الظل التي يترجمها المتابعون، إلى تعقيبات لاذعة ساخرة في معظمها، وثانياً، لأن هذه التعقيبات تعتبر مؤشراً إلى مزاج الشعب وبوصلته وكيفية رؤيته للأمور.
هذه المرة كانت قصة صورة الفنان محمد رمضان، التي لم تبق محصورة في مصر، بل تعدتها لتصبح مؤشراً ودالة على رؤية الشعوب العربية وفهمها لمسألة السلام والتطبيع. ثلاثة وأربعون عاماً مرت منذ توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، بدون حدوث أي تغيير في الرأي العام المصري تجاه إسرائيل، بل أجزم أنه اتجه للأسوأ. في بداية توقيع اتفاقية السلام، كانت هناك آمال حقيقية بعلاقة ودية وبرخاء اقتصادي وبداية مرحلة جديدة، إلا أن الأحداث التي تلت توقيع اتفاقية السلام، ومواصلة إسرائيل سياستها العدوانية وعنجهيتها تجاه العرب والفلسطينيين بشكل خاص، مستغلة الوضع الناشئ بعد اتفاقيات السلام مع مصر ثم مع الأردن ومع منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى عدم انعكاس هذا السلام على مستوى حياة الشعب المصري، وتبدد الوهم بالرخاء الاقتصادي، أدى إلى تراجع الأمل إلى حد انطفائه، وبدلا من تثبيت صورة جديدة للإسرائيلي بعد توقيعات السلام، عادت صورة المعتدي والمبادر إلى العدوان الرافض لليد العربية الممدودة، الذي يدوس حقوق الإنسان، من خلال ما يراه المواطن العربي من ممارسات على أرض الواقع، وتسهم بهذا التكنولوجيا الحديثة، وتوثيق ونشر بعض ما يدور من جرائم بحق المدنيين العزل، وحتى ضد معوقين ومسنين في الضفة الغربية، إضافة إلى حصار قطاع غزة الطويل، الذي يشارك فيه النظام المصري، والذي كان آخر نتائجه من الجانب المصري مقتل شقيقين صيادَين من دير البلح على يد البحرية المصرية، وذلك في سبتمبر الأخير.

الرد الشعبي المصري يتكامل مع موقف الفنانين والكتّاب المصريين من التطبيع، يعني أنه رغم توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، فإن الشعب المصري غير منعزل عن ما يدور في المنطقة، خصوصاً القضية الفلسطينية، وأن جذوتها ما زالت مشتعلة بقوة، في أعماق الوجدان الشعبي المصري والعربي. هذا يعني أن البلدان التي واجهت العدوان الإسرائيلي مباشرة، طيلة عقود، وعلى رأسها مصر، ودفعت الثمن من دماء أبنائها وأموالهم، ما زالت تحفظ لإسرائيل أفاعيلها، وممكن الملاحظة أن أكثر التعقيبات على قضية محمد رمضان ذكّرت بمجازر إسرائيل بحق الشعب والجنود المصريين في مراحل مختلفة من الصراع، إضافة إلى تعقيبات وصور تُظهر وحشية وهمجية الاحتلال ضد الفلسطينيين، وكلها تقول إن الشعوب لا تنسى ولا تغفر لمن يستبيح دماءها، وهذه الممارسات تبقى وصمة لا يمحوها الزمن، ولا تسقط بالتقادم، وممكن لحدث بسيط أن يوقظها من عتمة أرشيف التاريخ. من جهة أخرى، هذا يعني أن التفوق الآني في القوة والسلاح، لا يعني أن تستبيح إنسانية غيرك ودمه وأملاكه، مهما كانت الظروف مواتية لصالحك، وعليك أن لا تثمل بخمرة القوة، فالدم الذي يراق لا يُمحى بجرة قلم، ولا بقرار رئاسي أو ملكي، مهما علا شأن هذا المُوقِع أو ذاك.
أما في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فقد بدا المعلقون فيها مندهشين مستغربين من الانتقادات الشديدة، وقرار نقابة الممثلين بوقف عمله، ووقف مسلسل له كان سيعرض في رمضان المقبل، ووصفه ووصف فنه بشتى الأوصاف القبيحة، واعتبروها صادمة. بالطبع كانت هناك أصوات مصرية وعربية تحدثت عن العلاقات الإنسانية بين البشر، وأن الصورة عفوية، وأن العداء ليس لليهود، إلخ، ولكن هذا كان يُرد عليه بتعقيبات تؤكد أن السلام الحقيقي بين إسرائيل وشعوب المنطقة، ما زال بعيد المنال. الرد المصري الشعبي سكب ماءً بارداً على الحرارة الخليجية الرسمية، التي ظهرت تجاه نتنياهو ووزرائه وأجهزته الأمنية، وإظهارهم طلاب سلام أبرياء. بل يمكن القول إن قضية رمضان وتفاعلها قزمت ما ظهر كإنجازات كبيرة لنتنياهو في مجال التطبيع، وحددت الصورة بوضوح أكبر، بأن ما يجري بين نتنياهو وعدد من الأنظمة ليس سلاماً، بل هي صفقات سياسية سطحية بين أنظمة، لا علاقة لها بالأعماق ومراكز الثقل الحقيقية.
الشعوب العربية تطمح إلى الرخاء وإلى حياة أفضل وتتوق إلى سلام حقيقي، وإلى عدم التدخل الخارجي في شؤونها، ولكنها في الوقت ذاته لا تتقبل الاستفراد بهذا الشعب أو ذاك من شعوب الأمة العربية، وتنظر بعين الغضب إلى محاولات المحو وإسدال ستار التاريخ على القضية الفلسطينية.