كانت في الصّفِّ الخامسِ عندما نَزلتْ عن مِنصةِ مسرحِ مدرستها الابتدائية، هناك في المدينةِ البعيدة الصعبة، وكان تصفيقُ الطالبات والأهالي والمشرفات يغرقها بشكلٍ  مفاجئ وجميل.
كانت سعيدةً جداً وهي تتلقى القُبلاتِ من أمها وخالاتها: (بتجنني يا ماما.. رح تكوني أروع فنانة في المستقبل).
داعبت معلمة الدراما ومخرجة المسرحية رأسها مقتربةً من أذنها وهامسةً لها بمعلومةٍ غريبةٍ ستقلبُ حَياتها: (في المستقبل عندما تكبُرينَ يا تلميذتي تذكري أنَّ هناكَ مدينةً عظيمةً بانتظارك. مفتوحةً بلا أسوار، تمشي الطيورُ في طُرقاتها مع الناس دونَ خوف، مليئة بالنوافذ وشرفاتها تجلس في المقاهي وتشربُ الحرية).
- ما اسمُ هذهِ المدينةِ يا معلمتي؟
- لم تُجِبْ المعلمة ولكنها أضافت: (هي مدينةُ الشمس).
عادتْ الفنانةُ الصغيرةُ إلى البيت، وسألتْ أباها على الباب: (يا أبي، أينَ تقعُ مدينةُ الشمس؟). خاف الأبُ وأجابها أنه متعب الآن وسوف يجيبها غداً.
سألتْ الفنانةُ الصغيرةُ أمها: (أين تقعُ يا أمي مدينة الشمس؟). حَدّقت أمها في وجهها طويلاً ولم تُجِب. هاتفتْ الفنانةُ الصغيرةُ عمّها الفنان: (يا عمي لماذا يرفضُ أهلي إخباري عن مكانِ مدينة الشمس؟). أجابها العم: (هناك يا بنة أخي العزيزة، هناك قربَ شيءٍ اسمه الألم).
استغربت الفنانةُ الصغيرةُ إجابةَ عمها الذي قرنَ الشمسَ بالألم.. لكنها اعتبرت أن إجابةَ عمها إجابةً هاذيةً تشبهه تماماً هو المجنونَ الذي عاش أربعين عاماً يحلم بأنْ يصبحَ نهراً صغيراً.
ظلت البنتُ الصغيرةُ تسألُ أعمامَها وأخوالَها وآباء صديقاتها وأمهات صديقاتها عن مدينةِ الشمس المقرونةِ بالألم.. لم يُجبها أحد!
كَبُرت الفتاةُ الفنانة، صارت في التاسعة عشرة، دخلت الجامعة ومثّلت على منصتها المسرحية عديداً من المسرحيات. وفي آخر مسرحية مثلتها على منصة مؤسسة محترمة في المدينة الصعبة، كانت تصرخ في نهاية المشهد: «يا مدينة الشمس والألم.. اقتربي، اقتربي».
على الحدود التي يقفُ عليها أعداء الحياة والشمس، كانت الفنانة الصغيرة، الفنانة الجميلة، تغادر المدينة الصعبة سعيدةً لتدخلَ مدينة الشمس والألم.
في أولِ مشهدٍ مسرحي، في مدينة الشمس والألم كانت الفنانة تهمس لزميلتها: «لماذا يا عزيزتي تقترن الشمس دائماً بالألم؟».
أربعُ سنواتٍ مضت على إقامة الفنانة اللطيفة في مدينة الشمس والألم، عَرَفتْ فيها كثيراً من الناس، مَشت كثيراً في شوارعَ كثيرة، أَكلتْ ليلها، وشَرِبتْ فجرها. غفتْ على أكتاف الصديقات، وتكلمت كثيراً مع الطيور، وأَطلّتْ من نوافذَ جميلة، ووقفت تحتَ الشمس. غنّتْ وحَلُمتْ وقرأتْ.
كانت مدينة حلوة وسهلة وبسيطة، تتفهمُ الصراخَ في الشوارع بعدَ منتصف الليل وتستوعب سرقةَ الورد عن أسوار البيوت.. تحبُ الرقصَ والكتابة على الجدران وقراءة الروايات بصوتٍ مرتفع.
كانت الشمس تشرق بشكل ساطع في أيامها، لكنها لم تكن تعرف أن الألمَ يترصدُ بها من كل جانب، يلاحقها في كل مكان، وأن الألم يأتي على هيئاتٍ عديدة؛ صديقٌ يبتعد فجأة، مؤسسة تغلقُ أبوابها بشكلٍ مفاجئ، ابتسامة ساحرة لرجل رائع تموت فجأة، رب عمل يكشر بسرعة عن ابتزازه، وطيور تغادر خائفة.
تذكرت الفتاة اللطيفة خوف أبيها وأمها حين سألتهما عن مدينة الشمس والألم، وتذكرت عمها الذي قَرَنَ الشمسَ بالألم عمها الهاذي، عمها الذي لم يكن يهذي، عمها الذي كان يعرف كل شيء، ولم يقل لها كل شيء والذي أمضى عمره يحلم بالأنهار الصغيرة.
بعد أربع سنوات اكتشفت الفنانة اللطيفة أن النوافذ في مدينة الشمس والألم يمكن استخدامها لأغراض أخرى غير الإطلالة على الطيور والريح والشمس، لم تبذل جهداً لتعرف ذلك، فقط أسلمت نفسها للريح وسقطت من طابق سابع ولم تتوهم أن طيراً ما في مدينة الألم يمكن أن يتلقف جسمها ويعيده إلى غرفتها، كانت الأربع سنوات كافية لتعرف أن طيور مدينة الألم مصنوعة من بلاستيك وأن الريح محض ستارة مالحة وواهية وأن الشمس هي نفسها النهر المستحيل الذي حلم عمها المسكين بأن يكونه هناك في المدينة الصعبة.