يمكن القول إنه مع نهاية هذا العام الصاخب، بفعل حدث «كورونا»، الذي لازمه منذ بدايته، يبدو أن العالم بأسره يشهد هدوءا، مختلفا تماما عما كان عليه الحال قبل أربعة أعوام، ونقصد بذلك ارتباطا بما نجمت عنه عملية الاقتراع على الرئاسة الأميركية، فرغم أن صخب النتيجة بسبب رفض الرئيس المرشح المهزوم الأقرار بالنتيجة، إلا أن العالم من حول أميركا، يظهر هدوءا واضحا، ربما كان أحد أسبابه أيضا الإعلان عن التوصل إلى أكثر من مصل معالج لـ»كورونا»، رغم دخول فصل الشتاء ومعه موجة ثانية أو ثالثة أو رابعة في بعض المناطق من الجائحة عدوة البشرية بأسرها.
من الواضح ان وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض سبب صداعا وتوترا في الكثير من مناطق العالم، لذا فإنه ما أن اتضح أنه لن يبقى ساكنا فيه، حتى تغيرت الحسابات، وبات الجميع يفكر في اعادة ترتيب أموره تماشيا مع السياسية الخارجية الأميركية الجديدة، وفي الشرق الأوسط تحديدا، كان واضحا ان ادارة ترامب قد تعاملت معها باتجاه معاكس تماما لما كانت قد فعلت ادارة سلفه الديمقراطي باراك اوباما، وتحديدا في ثلاثة ملفات أساسية، هي ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، والملف الإيراني، ثم ملف ما سمي الربيع العربي.
فبعد كل الضرر الذي ألحقته ادارة ترامب بالحقوق الفلسطينية، فانه من شبه المؤكد ان ادارة جو بايدن، إن لم تنفع فانها لن تضر، أي ان لم تقم بالغاء قرارات ترامب الخاصة بالقدس، أو بالتطبيع وهذا شبه مستحيل بالطبع، فانها لن تتابع تبييض وجه الاستيطان القبيح، وربما لهذا السبب تفكر اسرائيل بدفع «ثورها الأهوج» ترامب للقيام بالمصادقة على ضم المستوطنات في المرحلة الانتقالية، لكن ادارة بايدن، ستخفف من الضرر بالتقليل من الاندفاع نحو التنفيذ، وقد اعلنت اوساطه انه ينوي اعادة فتح القنصلية الخاصة بالشأن الفلسطيني في القدس، كذلك اعادة فتح مكتب «م.ت.ف» في واشنطن واعادة اموال دعم المؤسسات غير الحكومية الفلسطينية.
ربما كان التغيير في هوية ساكن البيت الأبيض، احد دوافع الموقف الفلسطيني الإيجابي الأخير تجاه اعادة العلاقات مع اسرائيل وفق الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، لكن ما لابد من ملاحظته، أن التدخل الأوروبي وتدخل كثير من الدول فيما يخص تحويل اموال المقاصة، قد بدأ منذ وقت، كذلك تعليق القيادة الفلسطينية للعمل بالاتفاقيات بين الجانبين، كان قد جاء كرد على نية الحكومة الإسرائيلية إعلان ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية مطلع تموز الماضي، وحيث ان اعلان الضم لم يتم، فان من توسطوا بين الجانبين قد أثاروا هذه المسألة، والمهم ان هناك افقا لعودة التفاوض قد لا يكون تماما كما يريد الجانب الفلسطيني، حيث لن تستطيع ادارة بايدن، كما كان حال ادارة أوباما من قبله، فرض مسار تفاوضي وفق الشرعية الدولية على إسرائيل، لكنه لن يكون ايضا على قاعدة صفقة ترامب سيئة الصيت والسمعة.
أما بخصوص الملف الإيراني فان طهران نفسها بدأت الحديث عن رفض اعادة التفاوض مجددا، وهنا الاختبار امام ادارة بايدن سيكون في اعلانها العودة للاتفاق النووي، رغم التقدم الذي احرزته ايران على صعيد التخصيب، مقابل الضرر الاقتصادي الذي الحقته بها عقوبات ترامب، لكن حالة التوتر بما في ذلك احتمال اندلاع الحرب في الخليج، لن تحدث إلا بحماقة ترامبية في المرحلة الانتقالية، وواضح ان كل الجبهات باستثناء التحرش الإسرائيلي بسورية، بين الجانبين قد هدأت بما في ذلك جبهة غزة، حيث حتى الجهاد الإسلامي لم يقم بتوتير تلك الجبهة، رغم المماحكات الاخيرة حيث تسعى حماس للضغط على قطر لزيادة المعونة المالية الشهرية.
ومقابل سياسة الانسحاب من العراق وأفغانستان، ينوي بايدن سحب اليد الأميركية من اليمن، وممارسة الضغط على السعودية في ملف حقوق الإنسان، لذا فان حلفاء ترامب من العرب يتوجسون تجاه سياسة البيت الأبيض الجديدة، بما في ذلك صفقة اف 35 الخاصة بالإمارات، ولعل هذا ما يدفع إسرائيل للولوج اكثر في دهاليز دول التطبيع العربي وكذلك السعودية، لإقناعها بالالتصاق بها لتحميها من التغير المحتمل في سياسة واشنطن الخارجية الجديدة تجاهها.
إن ردود فعل الدول كافة، وخاصة الدول العربية تجاه نتيجة الانتخابات الأميركية واضحة، وتشي بمواقعها من طرفي المعادلة الداخلية الأميركية، حيث ان اعلام قطر، تابع بفرح فوز بايدن، ذلك انها كانت وما زالت منحازة لملف الربيع العربي، الذي رعته الإدارة الديمقراطية السابقة، ورفعت ادارة ترامب يدها عنه منذ العام 2016.
اسابيع قليلة، وتتضح الصورة تماما، وواضح ان ممانعة ترامب نقل السلطة بافتعال مماحكات قضائية لن تجدي، لكنها قد تؤثر على اهم محطة بقيت لحسم السلطة في اميركا وهي الاقتراع على مقعدي مجلس الشيوخ في جورجيا اللذين سيحسمان الأغلبية في المجلس، فإن فاز بهما الجمهوريون، فانهم سيقيدون يد ادارة بايدن، اما أذا أثرت سلبا سياسة ترامب خاصة مع الضغط على مشرعي الولايات للتأثير على مندوبي المجلس الانتخابي للتصويت عكس الإرادة الشعبية، فان غالبية ديمقراطية في مجلسي الكونغرس مع البيت الأبيض الديمقراطي تعني سيطرة ديمقراطية كاملة، لن يخفف من قراراتها اللاحقة كون شحصية بايدن معتدلة حسب كثير من المراقبين.
لعل الهدوء الذي نتحدث عنه يستثني إسرائيل التي كما اسلفنا، تسابق الزمن، خاصة لتثبيت منجزاتها خلال ولاية ترامب الخاصة بالاستيطان والتطبيع، اضافة إلى ان قضيتي القدس والجولان قد صارتا في الجيب، لذا فانه ورغم استطلاعات الرأي التي تمنح تحالف الليكود ويمينا اغلبية واضحة، فان تهديد الليكود بانتخابات جديدة، لم يعد مسموعا، بل على العكس بيني غانتس هو من بات يهدد بهذا، ربما لأنه يظن أنه يمكنه ان يحدث المفاجأة بانقلاب في إسرائيل على شاكلة ما حدث في اميركا، المهم انه بعد كل الصخب الذي حدث في عهد ترامب، العالم ومنه الشرق الأوسط، بات على اعتاب التفكير في هدوء وروية لإعادة ترتيب الأمور كافة، دون ضغط، أو تطير، وبشكل يعيد التوازن في العديد من مناطق العالم، وذلك بعد أن يتم ايضا التخلص من الأرق الذي سببه «كورونا» لكل العالم، دولا وشعوبا وحكومات وحكاما.