إذا كان لنا أن نأخذ بالظاهر فقط، فإن تبريرات حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، أي المسؤول عن ملف التواصل مع سلطات الاحتلال، لقراره عودة العلاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية مع دولة الاحتلال، إلى ما كانت عليه قبل19 مايو الماضي، لا تقنع رضيعا في المهد. ولكن ثمة احتمال، وإن كان بعيدا، بأن إعلان الشيخ المفاجئ مساء يوم الثلاثاء 17 نوفمبر الحالي، له أبعاد اخرى نجهلها، والمخفي دائما أعظم، ولكن لنضع هذه التخمينات جانبا، ونركز على ما رأيناه وسمعناه.

من دون سابق إنذار طلع علينا حسين الشيخ ليس بشخصه، بل من موقعه الرسمي، ليعلن على الملأ، ومن على شاشة تلفزيون فلسطين الرسمي الانتصار والإنجاز السياسي» الذي حققه الشعب الفلسطيني، بتلقيه رسالة ضمانات إسرائيلية تعلن فيها دولة الاحتلال، استمرار الاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية «ثنائية القطب» لتشكيل الإطار القانوني المطبق، الذي يغطي تصرفات كلا الطرفين في القضايا المالية والقضايا الأخرى.

والخطاب لم يبعث به رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، ولا وزير جيشه غانتس المسؤول عن ملف الضفة الغربية، ولا وزير خارجيته اشكنازي، الذي يفترض أن يكون مسؤولا عن ملف المفاوضات، ولا حتى مسؤول ملف المفاوضات، إن كان موجودا أصلا، بعد أن أسقطت دولة الاحتلال موضوع التفاوض، وفق المرجعيات والشرعية الدولية من حساباتها، وأصبحت تتحدث عن المرجعيات الأمريكية الجديدة المتمثلة بصفقة القرن وتشريع الاستيطان، واعتبار الضفة الغربية منطقة غير محتلة، بل أرضي متنازعا عليها، والقدس عاصمة لإسرائيل، واللاجئين قضية لم تعد موجودة، إلخ.

كان مرسل هذا الخطاب منسق أعمال حكومة الاحتلال في «الأراضي» كما يسمونها، العميد كميل أبو ركن، أي مسؤولا أمنيا من الدرجة الثالثة أو الرابعة، يجدد فيه وعودا داستها إسرائيل منذ أمد بعيد، وحتى هذا الخطاب لم يأت كبادرة حسن نية من حكومة الاحتلال، بل كان ردا على خطاب بعث به حسين الشيخ في السابع من أكتوبر الماضي، يسأل فيه العميد أبو ركن سؤالا واحدا وهو: هل الحكومة الإسرائيلية ما زالت ملتزمة بالاتفاقات أم لا، بمرجعيتها المعروفة وهي الشرعية الدولية؟ وحسين الشيخ برسالته هذه وسؤاله هذا، كمن أعطى دولة الاحتلال مخرجا.. وفعلا جاء الفرج.. وجاء الرد برسالة خطية منه وليس الحكومة الاسرائيلية كما قيل، وهذا هو نصها»: «السيد حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية الفلسطيني، سيدي العزيز، بخصوص رسالتك في السابع من أكتوبر 2020، فقد أعلنت إسرائيل مسبقا أن الاتفاقات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الثنائية، لا تزال تشكل الإطار القانوني النافذ الذي يحكم سلوك الأطراف، سواء من الناحية المالية أو في المسائل الأخرى، ولذلك وبموجب هذه الاتفاقات، فإن إسرائيل تواصل جمع الضرائب للسلطة الفلسطينية. وللأسف، فإن السلطة الفلسطينية هي من قررت عدم تسلم هذه الأموال المجموعة من قبل إسرائيل». مع التحية كميل أبو ركن/ منسق نشاطات الحكومة في الأراضي.

خطاب أبو ركن، الذي خلا حتى من «نجدد الالتزام» ركز في رسالته على القضية المالية، ولم يتطرق بالنص للقضايا السياسية، لذا فهو لا يشكل التزاما إسرائيليا لا من بعيد ولا من قريب، بالاتفاقات ولا بالقضايا، وفي مقدمتها ضم الأراضي وصفقة القرن اللتين كانتا السبب وراء إعلان الرئيس أبو مازن قطع العلاقات، ولا تشكل هذه الرسالة في أي شكل من الأشكال أرضية لعودة العلاقات إلى سابق عهدها، رغم أنها، كما قال الشيخ، أول رسالة خطية تتلقاها القيادة الفلسطينية من الحكومة الإسرائيلية في عهد بنيامين نتنياهو. وهو ما وصفه حسين الشيخ بـ»الانجاز والانتصار لشعبنا». والحقيقة أن هذه الرسالة ليست ذات قيمة. كان يمكن أن يكون لها بعض الإيجابيات لو أبقى حسين الشيخ «الإنجاز والانتصار» في حدود استرجاع أموال المقاصة، وهي حق فلسطيني لا يضيع بالتقادم، ولا فضل لإسرائيل فيها، وهي تتقاضى نصيبها ونسبتها 3% من هذه الأموال الضريبية التي تجمعها من البضائع الخاصة، بالأراضي الفلسطينية. ونتساءل كيف يمكن أن نأخذ برسالة كهذه لا تستحق الورق الذي كتبت عليه، أساسا لعودة كاملة للعلاقات، بينما الواقع على الأرض يتنافى مع مضمونها، أي الالتزام بالاتفاقات الموقعة، ففي غضون أقل من 48 ساعة، أعلن عن مخطط لتسريع مشاريع الاستيطان في القدس، وعزلها عن عمقها الفلسطيني، قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض، ووصول جو بايدن. وهو ما وصفته وزارة الخارجية الفلسطينية بأنه يعرض السلام (المنكوس أصلا) لانتكاسة كبيرة. وهي منطقة حسب صفقة القرن يفترض أن تخصص للمشاريع السياحية الفلسطينية. وأضافت الخارجية القول، إن «نتنياهو يريد استغلال الفترة الانتقالية المتبقية لإدارة ترامب، في محاولة لدفعه لاتخاذ قرارات انعكاساتها خطيرة على عملية السلام، ومبدأ حل الدولتين، بما يؤكد (والفلسطينيون ليسوا بحاجة لهذا التأكيد، ونذكر فقط بما آل إليه اتفاق أوسلو برعاية الرئيس الأمريكي وبحضور دولي غير مسبوق في البيت الابيض ومئات الصفحات) أنه لا يرغب بالسلام، وليس شريكا فيه، وأنه معاد لحل الدولتين، ويعمل على تدمير أي فرصة لإحلال السلام». ويعمل هذا المشروع والمخطط الاستعماري، على «استكمال حصار القدس المحتلة وفصلها عن محيطها الفلسطيني من جهتي الشمال والجنوب، بعد أن قامت سلطات الاحتلال بمحاصرتها من جهة الشرق عبر المخطط المسمى E1 «. ويضاف إلى ذلك الانتهاكات الاسرائيلية اليومية، سواء التي يرتكبها جيش الاحتلال أو قطعان مستوطنيه من قتل واعتقال، وهدم للمنازل، ونهب للأراضي والاعتداء على المزارعين الفلسطينيين، وسرقة محاصيلهم، خاصة في موسم قطاف الزيتون، والاعتقالات خاصة في القدس وآخرها اعتقال الهرمي وزير شؤون المدينة المقدسة، ومحافظها عدنان غيث، ومسؤولي الأقصى، وزيادة المدة الزمنية للاقتحامات اليومية للمستوطنين، وغير ذلك الكثير.

وإذا كان هذا الكلام صادر عن الخارجية الفلسطينية، فكيف لنا أن نصدق ما جاء في خطاب مسؤول أمني من الدرجة الرابعة. وهو خطاب لا ينسجم مع أفعال حكومة الاحتلال على الأرض، وآخرها زيادة وقت الاقتحامات اليومية للمستوطنين للاقصى.

اتفهم التواصل والاتفاق بشأن أموال المقاصة، التي هي حق فلسطيني، ويجب عدم التفريط به، لكن أن نقحم القضايا الاخرى مجانا، ومن دون أن يكون هناك تغيير في سياسة الاحتلال وممارساتهم على الارض، فهذا غير مفهوم وغير مقبول.

كان الأولى ألا يتعجل حسين الشيخ أمره وينتظر ولو بضعة أسابيع، قبل الإعلان «عن هذا الإنجاز والانتصار» لنرى ما تؤول إليه الأمور في البيت الأبيض، مع إصرار ترامب وجماعته على فوزه، ولنعرف مدى التزام بايدن بما وعد به.

وأخيرا نتساءل إن كانت لهذه الخطوة علاقة بالقمة الثلاثية المفاجئة في العاصمة البحرينية المنامة، التي حضرها رئيس المطبعين ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وملك الأردن عبدالله بن الحسين الثاني، إضافة إلى ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. وناقشت حسب الإعلان الرسمي آخر التطورات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها «القضية الفلسطينية!» وضرورة تحقيق السلام العادل والشامل على أساس «حل الدولتين.

واختتم بالقول إن حسين الشيخ أخطأ التقييم هذه المرة، فتوقيت الإعلان عن عودة العلاقات كان غير حكيم، بل كان خطأ ومتسرعا، وكان عليه والقيادة الفلسطينية من ورائه عدم استباق الأحداث والتريث قليلا بعد كل هذا الانتظار الطويل. العودة إلى التعاملات السابقة مع دولة الاحتلال قرار غير حكيم بامتياز، وما حصل هو استخفاف مرفوض بالعقول، فالشعب الفلسطيني أذكى مما تعتقدون. يا جماعة والله حرام عليكم تحقير إنجازات وانتصارات هذا الشعب العظيم، فاحترموا مشاعره واحترموا ذكاءه واحترموا تضحياته ومعاناته اليومية المتواصلة منذ أكثر من قرن، ولا تحاولوا إغضابه، فغضبه شديد وعقابه أشد. ومجددا نقول إن انتصارات الشعب الفلسطيني وإنجازاته أسمى.