انقلب الميزان الديمغرافي ضمن فلسطين التاريخية لمصلحة الفلسطينيين , و ما كان هاجساً لدى الاحتلالأصبح كابوساً واقعاً يقض مضاجع قياداته , و نحاول في هذه المقالة قراءة التطور الديمغرافي تاريخياً,و المحاولات الإسرائيلية السابقة لتجاوز هذا المأزق , و الأخطار المحتملة و إمكانية تنفيذ ترانسفير أو مخططات اقتتال داخلي للتخلص من أكبر عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين , و الحلول الفلسطينية الممكنة لتفادي هذه الأخطار .

منذ بدايات المشروع الاستيطاني في فلسطين احتل الميزان الديمغرافي مكانةً مهمةً في حسابات القائمين على هذا المشروع و مصدر أرقٍ لهم ، فتكثفت الهجرة الصهيونية إلى فلسطينقبيل النكبة و عند انسحاب البريطانيين من فلسطين و إعلان دولة الاحتلال تم اقتلاع أغلب الفلسطينيين من أراضيهم و لم يبقى إلا 650,000فلسطيني من أصل 1,400,000 منهم 150,000ضمن أراضي ال 48 , في مقابل800,000 مستوطن ، و عند احتلال الضفة الغربية و القطاع ترسخت هذه الأزمة و لعبت نسبة الولادات المرتفعة لدى أصحاب الأرض الفلسطينيين الدور الأساس إضافة إلى عوامل أخرى منها الهجرة المضادة للمستوطنين و تراجع الخصوبة لديهم ، مما ضاعف المخاوف الإسرائيلية من انقلاب الميزان الديمغرافي و تبعاته , و ذلك رغم العديد من الخطوات التي اتخذها الاحتلال إلا أنه تعرض لنكسات ديمغرافية متتالية ، نستعرضفي الجدول التالي التطور السكاني الزمني حسب المصادر الفلسطينية و الإسرائيلية:
الفلسطينيون    الاسرائيليون    العام
585,000    25,000    1903
690,000    55,200    1914
1,415,000    800,000    1948 قبل النكبة 
650,000    800,000    1948 بعد النكبة 
5,590,000    5,820,000    2011 (مصادر فلسطينية)
6,300,000    6,300,000    2015 (مصادر فلسطينية)
6,600,000    6,772,000    2019 (احصاءات رسمية الاحتلال)
7,210,000    6,792,000    2020 (مصادر فلسطينية)

إذاً أصبح عدد الفلسطينيين 6,300.000 نسمة حسب الاحصاءات و التقديرات الفلسطينيةعام 2015  مساوٍ لعدد المستوطنين , بينما يتساوى عدد الفلسطينيين و الاسرائيليينحسب الاحصاءات الإسرائيلية عام 2020 عند 7,000,000 نسمة , و مرد هذا الاختلاف لا يتعلق فقط بدقة الإحصاء , و لا يتسع المقام لتحليل الأسباب ,إنما نشير إلى نقطة مهمة تتعلق بكون أعداد من الإسرائيليين المحسوبين ضمن الإحصاءين ,لاتعد دولة الاحتلال مركز حياتهم , فهم يتنقلون بين الداخل و دول الغرب التي أصبحت مركز حياتهم و عملهم الفعلي فيما لا يزالون ضمن التعداد الرسمي .
محاولات دولة الاحتلال لتجاوز المأزق :
حاول الإسرائيليون منذ بداية مشروعهم تكثيف الهجرة الصهيونية و تهجير أكبر عدد من الفلسطينيين باستخدام أساليب عدة من الضغوط الأمنية و الاقتصادية و الاجتماعية كارتكاب المجازر بحقهم و سحب الهويات و مصادرة الأملاك و هدم البيوت و فرض الضرائب المرتفعة وإلغاء حق العودة للدارسين في الخارج عند امتداد فترة دراستهم و اشتراط الإبعاد للخروج من الاعتقال سواءاً فردياً أو ضمن صفقات التبادل و القائمة تطول . إلا أن عدم جدوى هذه الإجراءات و قصورها عن تحقيق فرق واضح , اضطر دولة الاحتلال إلى القيام بمحاولات لإيجاد حلول جذرية :
1-عمدت دولة الاحتلال خلال مسيرة أوسلو الموقع في 3/9/1993 إلى مراعاة الجانب الديمغرافي في كل التفاصيل ابتداءاً بالاعتراف المتبادل في 9/9/1993 بدولة اسرائيل مقابل الاعتراف بتمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني دون تعريف كيان فلسطيني مروراً بالاتفاقات التنفيذية لأوسلو التي منحت السلطة الفلسطينية المناطق ذات الكثافة السكانية فيما أبقت بقية المناطق تحت سيطرة الاحتلال والتي تكثف الاستيطان فيها , و من الجدير بالذكر أن مشروع أوسلو كان بمثابة الحل الذهبي لمعضلة الاحتلال الديمغرافية و قد كان ضرورة اسرائيلية كما كان فرصة بالنسبة لمنظمة التحرير لخلق مشروع دولة تحظى بقبول دولي , و كان هذا الحل مقبولاً لدى شرائح من المجتمع الصهيوني قبل تغير التوجه الصهيوني و لذلك أسبابه .
2-القدس الكبرى (المتروبوليتان) : انطلاقاً من أهمية القدس و الميزان الديمغرافي للمشروع الصهيوني , عمدت سلطات الاحتلال إلى تغيير الحدود الإدارية للقدس مراراً , و كان آخر هذه الحدود ما سمته إدارة الاحتلال بالقدس الكبرى , بحيث تم إخراج الكتل السكانية الفلسطينية و إدخال كتل استيطانية و مساحات شاسعة بحيث أصبحت حدود القدس عام 1995 تضم 30% من أراضي الضفة.
عدد سكان القدس حسب احصاءات عام 2008 482,000 اسرائيلي منهم 203,350 في القدس الشرقية مقابل 268,400 فلسطيني يقيمون في القدس الشرقيةو منهم 68,000 قامت سلطات الاحتلال بإلغاء إقاماتهم الدائمة في القدس, و في عام 2020 تشير التقديرات إلى وجود 360,000 فلسطيني مقابل 650,000 اسرائيلي في حدود بلدية القدس الكبرى بشقيها المحتلين عام 48 و 67 .  و من الجدير بالذكر أنه و رغم كل إجراءات التهويد و الاستيلاء فإن عدد سكان بلدة القدس القديمة حسب احصاءات 2008 هو 36,000 فلسطيني مقابل 3,800 اسرائيلي .
3-طرح مبدأ تبادل الأراضي في اللقاء التفاوضي في كامب ديفيد 25/7/2000 و ما تلاها للتخلص من كتلة الفلسطينيين المتركزة في المثلث فيما طالب الرئيس الراحل ياسر عرفات بأولوية انجاز ملف القدس .
4- طرح مبدأ يهودية الدولة عام 2002 و مراعاة خطة خارطة الطريق التي أطلقتها الخارجية الأمريكية في 30/4/2003 لها عبر جعل الخطة و خطاب بوش الابن مرجعاً للتفاوض بدل القرارات الأممية , مما يعني ضرورة أن يتضمن الحل النهائي المفترض تخليص دولة الاحتلال من فلسطينيي ال 48 .
5-طرح مسودة مبادرة السلام العربية بالتنسيق المباشر أو غير المباشر وخلوها من حق العودة , ليصار لاحقاً إلى تعديلها بضغط من بعض الأطراف و تضمينها حق العودة , لتطوى المبادرة في الأدراج .
6- بدأت دولة الاحتلال في حزيران 2002 إنشاء الجدار العازل في الضفة . هذا الجدار ابتلع 46% من أراضي الضفة و ضم إلى دولة الاحتلال 74 مستوطنة يسكنها 367,646 مستوطن فيما أبقى خارجه 74 مستوطنة صغيرة يسكنها 56,354 مستوطن و عزلت 97 قرية يسكنها 373,000 فلسطيني عن بقية سكان الضفة أي ضم أكبر مساحة يسكنها أكبر عدد من المستوطنين و أقل عدد من الفلسطينيين . 
7-الانسحاب الإسرائيلي من غزة 15/8/2005 تحت وطأة المقاومة و للتخلص كذلك من الكتلة السكانية الفلسطينية فيها و التي سبق لشارون القول عنها أنه يحلم باليوم الذي يصحو فيه ليجد البحر و قد ابتلعها, و بلغ عدد سكان غزة  نسمة 2,040,000 عام  2019.
8- الرفض القطعي لدولة الاحتلال لمناقشة عودة اللاجئين الفلسطينيين خلال مسيرة التفاوض , و التي تم تجاهلها و تأجيلها مراراً إلى أن  صرح  رئيس السلطة محمود عباس عبر أحاديث صحفية بأن حق العودة معناه حق جميع الفلسطينيينبالعودة إلى أراضي السلطة و عودة عشرين ألفا ممن ولدوا في أراضي ال 48 و مازالوا أحياءاً إلى أراضيهم دون امتلاكهم حق لم الشمل .
9- صفقة القرن : تعد صفقة القرن التغيير الأخير و الأخطر لماهية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي إذ تحول القضية من نضال ضد الاحتلال إلى حلول اقتصادية , هذا المسخ الذي تم تعديل جيناته مراراً قبل ولادته غير الشرعية , حيث تم التسريب رسمياً أو إعلامياً لمشاريع عديدة تنقل الثقل الديمغرافي الفلسطيني إلى خارج الضفة و فلسطين التاريخية , مرة في الأردن و أخرى في مصر مقابل مساعدات مالية ممولة خليجياً , إلى أن تم إعلان الصفقة بصورتها النهائية حيث أنجبت مسخاً من الخرائط تنقل الثقل الديمغرافي الفلسطيني من الضفة إلى غزة و بعض المساحات في صحراء النقب و سيناء لتستوعب عدداً من فلسطينيي الضفة و الشتات(العائدون), و الأخطر أنها تحول القضية الفلسطينية إلى حلول اقتصادية و تبرئ دولة الاحتلال من مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين و أرضهم .
إذاً هذا المسلسل الذي عرجنا على أهم محطاته لم ينجح بإيصال دولة الاحتلال إلى حلول جذرية , و لا يتوقع المرء له إلا أن يستمر في ظل الشلل الرسمي الفلسطيني و التواطؤ الرسمي العربي , و بملاحظة أن السلوك الصهيوني كثيراً ما يكون خارج صندوق المنطق و المعقول , و في ظل المؤشرات و التسريبات التي رشحت , قد يلجأ الاحتلال إلى خطوات غير مسبوقة تجعل الواقع الفلسطيني أمام مخاطر جذرية جديدة . 
وفقاً لبعض التسريبات تقوم عدة أطراف عدة في السلطة بإدخال كميات من الأسلحة إلى الضفة برعاية و غض بصر إسرائيليين , بما يهدد بسيناريوهات دموية يتم تحضيرها لمرحلة ما بعد عباس ,و هذا الاقتتال الداخلي إن حدث لن ينقل القضية مراحل إلى الخلف فقط , بل قد يمهد الطريق لهجرة أعداد كبيرة من الفلسطينيين فردياً أو جماعياً .
من السيناريوهات السوداء الممكنة أيضاً أن يقدم الاحتلال على تنفيذ ترانسفير و طرد أعداد من الفلسطينيين إلى بلدٍ مجاورٍ , و رغم أن الكثيرين يستبعدون هذا الاحتمال إلا أن المنطق يقتضي الاحتياط للأسوأ , و خاصةً أن هذا الأمر الذي يخلص دولة الاحتلال من المأزق الديمغرافي , لا يبتعد كثيراً عن سيناريوهات صفقة القرن و لا يوجد وزن فلسطيني أو عربي أو أممي يعارض بشكل فعلي هكذا خطوة , و نحن هنا نذكر الأخطار المحتملة من باب ضرورة أخذ أي مخاطر محتملة في عين الاعتبار للقائمين على الشأن السياسي الفلسطيني, لمواجهة هذه الأخطار و غيرها مما قد يتفتق عنه الفكر الصهيوني ,و حيث يمكن للخطوات التالية أن تشكل سداً في وجه مشاريع الاحتلال :
1-الوحدة الوطنية : حيث أن حالة التشظي الوطني و تشتت الجهد لا يقل خطورة على القضية من سلوكيات الاحتلال , ما من شأنه تأمين تربة خصبة لمشاريع الاحتلال دون وجود جهد فلسطيني فعلي أو تمثيل فلسطيني مقنع .
2- تطوير منظمة التحرير و تشكيل قيادة فلسطينية توافقيةتضمن تمثيل عموم الفلسطينيين في الداخل و الخارج بما يمنع تجاوز الفلسطينيين في أي مشروع مستقبلي ,و حيث أن الانتخابات تعد الطريقة الأمثل , إلا أن صيغة توافقية بين القوى الفلسطينية تنهي الانقسام الفلسطيني و تضمن تمثيل الداخل و الخارج تعد أفضل بمراحل من الوضع الحالي .
3- الاتفاق على آلية فلسطينية لتجديد القيادة الفلسطينية لتحصينها من التدخلات الخارجية .
4- برنامج فلسطيني نضالي موحد يحافظ على الحقوق الفلسطينية و يسعى لاسترجاعها .
5- بناء علاقات اقليمية و دولية متوازنة تخلص الفلسطينيين من الارتهان للرضى الأمريكي و تؤمن بدائل سياسية و اقتصادية .
هذه الخطوات تبدو ضرورية لدفع الأخطار و التمسك بالحقوق الفلسطينية , رغم أن  القيادات الفلسطينية لا يبدو أنها مقتنعة بجدوى الرجوع إلى العمق الفلسطيني في ضوء استمرار الرهان على الدور الأمريكي , إلا أننا أمام مخاطر جمة و ما لم نصحو قد تلفحنا قريباً نار الاقتتال الداخلي أو تهبط علينا قيادة بالبراشوتالأمريكي أو نجد أنفسنا أمام نكبة و ترانسفير جديد و القائمة تطول .