
خاص صدى نيوز: يلتهم التوسع العمراني أخصب الأراضي الزراعية خصوصاً في محافظات شمال الضفة والتي تريدها الحكومة الفلسطينية أن تصبح "سلة خضار فلسطين"، حيث قدم رئيس الوزراء محمد اشتية خطة "عناقيد" زراعية في محافظات شمال الضفة الغربية (قلقيلية، جنين، طولكرم، طوباس، والأغوار)، ولكن في ظل الزيادة بأعداد السكان والحاجة للتوسع العمراني باتت مساحة الأراضي الزراعية تتقلص مع توسيع المخططات الهيكلية للبلديات حتى على حساب أخصب الأراضي الزراعية في هذه المحافظات، وكل هذا بضوء أخضر من الجهات ذات العلاقة.
وكشفت دراسة للباحث مصطفى قبها نشرت بالعام 2014 عن خسارة جنين نحو 12% من أراضيها الزراعية ذات القيمة عالية الخصوبة خلال الأعوام 2002-2012؛ وذلك بسبب التمدد العمراني، وأشارت الدراسة إلى غياب التخطيط ودور المؤسسات الأهلية والحكومية في الحد من الزحف العمراني في المدينة.
هذا في جنين أما في طولكرم، فقد رصدت صدى نيوز عمليات توسع وبناء عمراني كبيرة تجري على حساب أخصب الأراضي الزراعية في المدينة وضواحيها، وبترخيص من البلديات وموافقة الوزارات ذات العلاقة التي أقرت المخطط الهيكلي للبلدية.
ملوخية ذنابة "كانت" مشهورة
يقول رئيس قسم العلاقات العامة في بلدية طولكرم، إبن ضاحية ذنابه في طولكرم، مهند مطر إن المنطقة التي يسكنها (ضاحية ذنابه) لطالما عرفت بالزراعة وخبرة أهلها بهذا المجال على مدى الأجيال، وكذلك كانت منتجاتها الزراعية مشهورة في جميع أنحاء الوطن وخصوصاً الملوخية، إلا أن هذا انتهى مع التوسع في البناء على حساب الأراضي الزراعية.
ويضيف في حديث لـ صدى نيوز أن حي الرشيد في المدينة مثلاً، أقيم بالكامل ويواصل توسعه على الأراضي الزراعية شرق ضاحية ذنابه الزراعية، مشيراً إلى أن التزايد الكبير في أعداد سكان مخيم طولكرم الواقع بين المدينة والضاحية ساهم أيضاً في التوسع على حساب الأراضي الزراعية الخصبة التي تقل يوماً عن يوم.
وبين رئيس قسم العلاقات العامة في البلدية أن الأراضي والدفيئات الزراعية في مدينة طولكرم كانت تتوزع بين ضاحية ذنابه (شرقاً) وضاحية شويكة (شمال) إضافة لارتاح والعِزب، الا أن إقامة جدار الفصل العنصري على حدود المدينة الغربية وما نتج عنه من ابتلاع السهل الساحلي الخصب، جعل توسع المدينة يجري على الأراضي القريبة المصنفة "أ" والتي في أغلبها أراضٍ زراعية وتشكل ثلث مساحة ذنابه، فيما بقيت الأراضي المصنفة "ج" وتشكل الثلثين مهملة ويخشى المواطنون البناء فيها من عمليات الهدم، ما سّرع من "اندثار" المناطق الخضراء.
وأضاف مطر: "حسب ما بنشوف الأراضي الزراعية تتآكل وتتلاشى، وكل يوم في زحف عمران، طولكرم من الغرب حدها الجدار، والتوسع أصبح للشرق على ضاحية ذنابة الزراعية التي تشتهر بالزراعة.. تلقائياً بسبب التزايد السكاني بلشت توكل من الأراضي الزراعية وصار البناء فيها متسارع وهيه امتداد أكثر سهولة للسكان".

قاعة أعراس على بيارات طولكرم!
في مشهد آخر، رصدت صدى نيوز عمليات بناء قاعات أفراح ومنتجعات سياحية تجري في منطقة "السهل" بحي الأقصى بالمدينة.
وعند سؤالها عن هذا، أكدت البلدية على لسان مسؤول العلاقات العامة فيها أن هذه المنطقة كانت تاريخياً منطقة بيارات شديدة الخصوبة مزروعة بالحمضيات حتى جاء التوسع العمراني ولم يبقِ منها شيء، حيث اختفى السهل الزراعي الخصب تحت أكوام الإسمنت، وأضافت: "ما في قوانين منعت البناء في الأراضي" ولا نلمس وجود رقابة من وزارة الزراعة أو غيرها.
يذكر هنا أن قانون الزراعة في مادته 12 يمنع إقامة المباني في الأراضي الخصبة إلا لخدمة العملية الزراعة وفق ضوابط محددة ومفصلة في القانون.
وفي هذا الواقع، من هو المسؤول عن هذا الهدر في الأراضي الفلسطينية الخصبة؟ والتي تمثل حجر أساس في تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية بدل الاستيراد من إسرائيل؟

القانون يمنع.. فأين المشكلة؟
تحظر المادة (12) من قانون الزراعة رقم (2) لسنة 2003، إنشاء أية مبانٍ عامة أو خاصة أو منشآت صناعية أو تجارية أو حرفية في الأراضي الزراعية أو البور أو اتخاذ أية إجراءات في شأن تقسيم الأراضي لإقامة مبان عليها. وتضع المادة محددات للسماح للبناء في هذه الأراضي على رأسها أن يكون البناء متناسب مع حجم الأرض ويخدم العملية الزراعية فقط، الا أن المشاهدات وتصريحات بلدية طولكرم تؤكد أن أياً من هذه المعايير لا تراعى عند إقامة المبانٍ ذات الأهداف التجارية والاستثمارية والسكنية، كما لا تشير إلى وجود جهات رقابية تؤدي دور الحامي للأراضي الخصبة.
البلديات تخلي مسؤوليتها
تبدأ مشكلة استنزاف الأراضي الزراعية من إقرار المخططات الهيكلية للبلديات، والتي تكفل السماح وترخيص البناء في المناطق التي تشملها حتى إن كانت أراضٍ زراعية.
وعن هذا يوضح المهندس نهاد أبو شيخة مدير دائرة التخطيط والتعاون في بلدية طولكرم، أن المخطط الهيكلي لطولكرم لم يُصنف أي جزء منه على أنه "زراعي" وأن جميع الأراضي المشمولة بالمخطط مصنفة كمناطق سكنية أو صناعية أو خدمية، وبالتالي لا يمنع البناء بها. وبالطبع فإن المناطق التي تم الحديث عنها في أول التقرير ضمن المخطط الهيكلي ولا يوجد مخالفة قانونية من البناء فيها.
كما تخلي بلدية جنين مسؤوليتها عن عمليات البناء التي تتم في الأراضي الزراعية، وتقول مهندسة التنظيم في البلدية شيرين أبو وعر لـ صدى نيوز إن المخطط الهيكلي لجنين يخلو أيضاً، من أي أراضٍ مصنفة على أنها زراعية، مضيفة أن آخر توسعة للمخطط الهيكلي كانت في العام 2005 وذهبت باتجاه المناطق الجبلية والوعرة في الجنوب ولم تمس الأراضي السهلية في الشمال، محملة الحكم المحلي مسؤولية الرقابة على المناطق خارج حدودها.

الزراعة.. لا تُراقب
في المقابل، يقول مدير عام زراعة طولكرم سمير سماره حين سألناه عن التعديات على الأراضي الزراعية إن هذه تعديات فردية ولا تشكل ظاهرة، وحمل البلديات مسؤولية الرقابة على مناطق البناء، وأن من مسؤوليتها عدم منح ترخيص للمباني التي تقام على الأراضي الزراعية، وذلك على الرغم من أن مديريته المسؤولة بموجب القانون عن حماية الأراضي الزراعية وتشارك في إقرار المخططات الهيكلية التي تتيح البناء فيها.
وأردف: "التعديات ليست ظاهرة وليست في كل محافظة طولكرم وهذا يعتمد على دور البلديات ولجنة التنظيم والبناء، كما أنها غير قانونية ولن تحصل على تراخيص حالياً أو بالمستقبل.. هناك جهود مستمرة للمحافظة على الأراضي عالية القيمة الزراعية وهناك بعض الاعتداءات تتم معالجتها وفق القانون".
وعن طبيعة التدخلات التي تقوم بها وزارته لمنع التعديات، أكد أن أي مبنى مقام على أرضٍ زراعية "لا يأخذ التراخيص اللازمة من لجنة التنظيم والبناء أو البلديات"، وفيما يخص الدور التفتيشي وحماية الأراضي من البناء غير المرخص، فحمل البلدية مسؤولة الرقابة قائلاً: "الدور التفتيشي للبلديات، هي التي لديها مخطط هيكلي لكل مدينة مفصّل، وهي التي تعتبر ممثل للحكومة في كل اختصاصاتها"، علماً أن المخططات الهيكلية وفق البلدية لا تشمل تصنيف أي مناطق على أنها زراعية!
الحكم المحلي: تمدد طبيعي
أما مدير عام الحكم المحلي في محافظة طولكرم م. إياد خلف في تصريحه لـ صدى نيوز، حمّل هو الآخر البلديات مسؤولية الرقابة على هذه التعديات، مضيفاً أن على البلدية الالتزام بالمخطط الهيكلي الذي تضعه الأطراف ذات العلاقة، والذي يحدد المناطق المتاح البناء بها.
وأشار خلف إلى أنه قد تحصل عمليات ضم لأراضٍ زراعية للمخطط الهيكلي والحدود التنظيمية، على اعتبار أنها "الامتداد الطبيعي للبناء، ويكون رفع الحماية (عن الأراضي الزراعية) بموافقة الجهات المعنية المختصة بهذا الموضوع".
وأكد عن موافقة الجهات ذات العلاقة على البناء في أراضٍ زراعية وقال: "في بعض القضايا في الشوارع الرئيسية ومداخل المدن والقرى يكون لها أحكام خاصة وهذه مداخل وفيها مناطق تجارية واستمرارية مناطق تجارية، ويتخذ قرار رفع الحماية بالتعاون مع وزارة الزراعة".
واعترف في حديثه لـ صدى نيوز بوجود "بعض التراخي في البلديات" وأردف" لكن إجمالاً لا نسمح وقانونياً بالبناء في الأراضي عالية القيمة".

المحددات والاحتلال
يشير مدير دائرة التخطيط في بلدية طولكرم المهندس نهاد أبو شيخة إلى أن أول عملية ضم لأراضٍ زراعية للمخطط الهيكلي كانت في بداية الثمانينيات بهدف منع خطة استيطانية بمد شارع بعرض 100 متر يلتهم سهل طولكرم باتجاه نابلس، ولذلك صدر قرار بالسماح بالبناء في الأراضي الزراعية بهدف حمايتها وإفشال المخطط الإسرائيلي الاستيطاني.
ويوضح أبو شيخة المحددات التي تؤخذ بعين الاعتبار عند وضع وإقرار المخططات الهيكلية للبلديات، والتي منها: موقع الأراضي وجهات التوسع الطبيعي والطبيعة الجغرافية وإضافة لعوامل أخرى خاصة بفلسطين تتمثل في عوامل مواجهة الاستيطان وتحقيق الأهداف الوطنية والتي تجبر المُخطط أحياناً على ضم أراضي زراعية لمخططات هيكلية للبلديات والسماح بالبناء فيها لحمايتها من الاستيطان رغم أن المحددات في الوضع الطبيعي تمنع وتشجع على المحافظة عليها كأراضٍ زراعية.
وعلى الرغم من تبادل الجهات الرسمية ذات العلاقة المسؤولية عن التهام الأراضي الزراعية أحياناً والسماح بالبناء على أخصب الأراضي الزراعية في أحيانٍ أخرى لأهداف "وطنية"، تبقى "زراعة الإسمنت" تزدهر ولكنها لن تنبت لفلسطين والفلسطينيين اكتفاءً واستقلالية اقتصادية.




