إذا كان الموت حقيقة مطلقة، وأن مليارات البشر والأحياء الأخرى قد طواها التراب، ولم يتوقف عندهم الزمن، فإن عشرات الآلاف منهم، قد انتصروا على الموت الجسدي، بما قدموه، فتركوا بصماتهم على صفحات التاريخ. حين يذوب الإنسان في خدمة الإنسانية، أو في وطنية بلاده ومجتمعه، ويعبر عن تطلعاته، فإنه يكون قد ترك بصماته في ذاكرة الملايين.
مات أمير الكويت صباح الأحمد الصباح، صاحب التجربة الطويلة في قيادة دولة الكويت بعد أن أمضى فترة أطول كوزير لخارجية البلاد. لو كان ثمة مجال أو فائدة من الدعاء لكنا تمنينا له عمراً أطول، لكن غيابه في هذه المرحلة الحرجة لا يعني أن إرثه قد رحل معه، فلقد ترك بلداً مستقراً، متوازناً ينعم أهله بالطمأنينة والاستقرار، ويحظى باحترام وتقدير من قبل شعوب كثيرة ومن بينها وربما في مقدمتها الشعب الفلسطيني.
ربما لا يعني الكثير أن يتزامن رحيل أمير الكويت، مع الذكرى الخمسين لرحيل رائد وقائد القومية العربية في القرن العشرين جمال عبد الناصر. لكن خيطاً ما يجمع بين الزعيمين، بل ربما أكثر من خيط، والأهمّ من بين الخطوط، الوفاء للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولى.
حين يغادرنا الكبار، لا تعود ثمة ضرورة، للبحث في زوايا الذاكرة، أو الاستعانة،        بـ»غوغل»، أو بتقليب أوراق التاريخ، لتقديم الوقائع، والمواقف، لتقديم مراسم الوفاء، وللتذكير بمناقبهم. ثم لا ضرورة لإجراء مقارنة، بين هؤلاء الكبار، حتى نعطي الرجال مقاماتهم الحقيقية، حين يكونون فوق الشبهات، وتجاوزوا بأفعالهم وسيرهم الحاجة لمن يذكر بها.
لدولة وشعب وأمراء الكويت أفضال على الشعب الفلسطيني، لا ينكرها، ولا ينكر أهل الكويت أفضال الفلسطينيين الذين ساهموا في نهضة الكويت، وساهموا في تربية أجيال من المتعلمين الذين خدموا ولا يزالون يخدمون بلادهم.
إن كانت الأصالة واحدة من خصائص العرب الأقحاح، فلقد أثبت الكويتيون أنهم عرب، كرماء، يتمتعون بالشهامة والوفاء، وتقديم يد العون للمظلوم.
حين احتلت العراق الكويت، وقع على أهل البلاد ظلم شديد، فلقد عرفوا التشرد، واللجوء، كما عرفه الفلسطيني، وعرفوا القمع والقتل والملاحقة كما عرفه الفلسطيني، وعرفوا الموت، والجوع كما يعرفه الفلسطيني.
حين استعادوا بلادهم وسيادتهم، كان لهم عذر العتب على كل من وقف إلى جانب النظام العراقي آنذاك، وقد كانت منظمة التحرير من بين أولئك، أو هكذا فهم الكويتيون. أكثر من أربعمائة ألف فلسطيني كانوا يقيمون في الكويت، فقدوا وظائفهم وأعمالهم، وتشردوا في أنحاء الأرض.
كان من الممكن أن يترك هذا الجرح العميق، آثاراً بعيدة المدى على الكويتيين، ويخلق الحقد والكراهية، لكن روح التسامح التي تشكل جزءاً من أصالة العرب، سرعان ما أن مسحت تلك الآثار، بمجرد أن اعتذر الرئيس محمود عباس عن ذلك الموقف.
لكأن الكويتيين كانوا ينتظرون ذلك الاعتذار، ويريدون أن تزول تلك الغمّة، حيث بدأت ترتفع الأصوات التي تشيد بدور الفلسطينيين في بناء ونهضة الكويت، وفتحوا المجال لعودة المعلمين، لكي يتابعوا ما بدأه أسلافهم.
لعلّني أستثمر فرصة وفاة الأمير صباح الأحمد، لتقديم العزاء، وإعلان الوفاء لهذا البلد الجميل، الذي لم يغادر مواقع ومواقف وسياسات الدعم للشعب الفلسطيني، والشواهد كثيرة لا مجال لحصرها.
زالت الغمّة، فعاد الكويتيون لمواصلة ما كانوا بدؤوه ودرجوا عليه قبل مأساة احتلال بلادهم، حتى بالنسبة للعراق والعراقيين، وليس فقط الفلسطينيين.
يحسب للكويت أنها، متميزة عن غيرها من مثيلاتها في المنطقة ووفق قياسات نسبية فإنها واحة للديمقراطية، وقد سبقت غيرها من حيث التطور العمراني. الكويت تضجّ بالحياة السياسية منذ وقت مبكر، وفيها تيار قومي، ومعارضة سياسية، يحكم أداءها جميعاً القانون. والكويت تشهد انتخابات تشريعية حقيقية، ويتشكل مجلس الأمة على هذا الأساس وتدور فيه نقاشات حادة وجادة وأمامه أقسم اليمين الشيخ نواف الأحمد خلفاً للراحل صباح الأحمد، ولفترة كانت مدرسة ثالثة للصحافة بعد مصر ولبنان.
حين قام رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم بتحقير الوفد الإسرائيلي في اجتماع نيابي دولي ما أدى إلى خروجه من القاعة، لم يكن يعبر عن موقف شخصي، ولذلك فإنه لم يتلق أي انتقاد لا من مجلس الأمة ولا من الحكومة أو أمير البلاد.
موقف الكويت، اليوم، من انهيارات التطبيع، واضح وصريح، وهو مزعج للولايات المتحدة، ولم يخضع للضغوط الهائلة من إدارة ترامب واللوبي الصهيوني. في العموم، أميركا أيام جورج بوش الأب، شكلت تحالفاً دولياً لتحرير الكويت، ولكن ذلك الموقف «الأخلاقي»، لا يشكل ضغطاً معنوياً على الكويت حين يتعلق الأمر بالالتزام بالقضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين والعرب.
ربما، أيضاً، يتزامن رحيل أمير الكويت مع بدايات ما يعرف بـ»الربيع العربي»، حيث افتتحت تونس، أحداثاً تستمر منذ عشر سنوات، تأكل الأخضر واليابس في طول المنطقة العربية وعرضها.
عديد الدول العربية، لم تخفِ دورها في دعم المعارضات والإرهاب، عبر تزويدها بالأموال، والأسلحة، والتسهيلات اللوجستية، وكل ذلك في سياق أدوار مرسومة من قبل الولايات المتحدة، ولتحقيق أهداف إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط بما يخدم المصالح والأطماع الاستعمارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل.
الكويت من الدول القليلة التي لم توسخ يدها، وسمعتها، في هذا الصراع المستمر حتى اليوم، فلم يذكر أحد اسم الكويت، أو الكويتيين في الصراع الجاري.
هذه السياسة المتوازنة والواعية والموضوعية جعلت الكويت تواصل بناء ربيعها الخاص، وبما يجنّب الدولة والمجتمع من تسلل فيروس الإرهاب، والانحطاط السياسي كما حال عديد الدول العربية.
ربما لا تفي هذه المطالعة، بما تستحقه الكويت، قيادةً وحكومةً وشعباً، وهي تخرج عن إطار مناكفة آخرين، لكنها شيء من الوفاء ودعوة من أجل سلامة البلد وأهلها.