يجلس وأمامه بسطة مليئة بالقطين على شكل قلائد وأقراص وحب، يبدو  القطين متقن التصنيع والإعداد ويضاهي القطين التركي المفروز آلياً. قطين أبو إبراهيم جاذب حقاً، ويتحول الى جاذب أكثر عندما يعرف المرء حكاية أبو إبراهيم مع شجر التين. فهذا الرجل الذي لم يكن له عمل تولى جمع تلك الثمار المتروكة والمهدورة تحت أشجار التين في بلدة سلواد/ شرق رام الله. فأوجد له عملاً ومورداً بسليقته وعفويته، وفي الوقت نفسه  أنقذ ثمار التين من الهدر، بموافقة أصحابها الذين اضطروا لتركها، بسبب انشغالهم في أعمال أخرى. أصبح أبو إبراهيم قادراً على العيش اعتماداً على نفسه، بل فَكّر في ادخار بعض من إنتاجه لفترة ما بعد الموسم. بدا أبو إبراهيم سعيداً واثقاً بنفسه وهو يتحول الى شخص منتج وإيجابي ومبتكر، معيداً الاعتبار للأرض وقيم العمل التي قدمها الآباء والأجداد.
"مطاوع" العامل الأصلاني الذي لم ينفصل عن أرضه وظلت علاقته بها على ما يُرام، استمر في عمله خلف الخط الأخضر واستمر اهتمامه بالأرض كضمانة لاستقراره وعائلته، بقي يعمل الى ان ادخر مبلغاً من المال، سرعان ما استثمره  في زراعة أشجار التفاح واللوز والعنب، وزراعة الباميا واللوبيا والفاصوليا، ولم يمض طويل وقت قبل أن تأتي مزروعاته أكلها ليكرس اعتماده عليها في العيش، كبديل للعمل الذي كان من نتائجه ومن اهدافه الإسرائيلية فصل الناس عن ارضهم. مطاوع العامل الذي يعود أدراجه الى فلاحة الارض كان مشاركاً فعالاً في كل مراحل الزراعة بما في ذلك التسويق والبيع للمواطنين الفلسطينيين مباشرة وبدون اي وسيط. مطاوع يتحول من عامل الى فلاح في مواجهة سياسة الإقصاء الاستعمارية.
أم عمر وأبو عمر ثنائي لافت في الشراكة يتقاسمان العمل في زراعة الارض وفي جمع المحصول وتسويقه على قدم المساواة، متجاوزين بذلك  ثقافة التمييز في الأدوار والحضور الدخيلة على المجتمع الفلاحي الفلسطيني، أم عمر ترتدي ثوبها الفلاحي وتساعد المشتري في انتقاء "التين" و"البندورة البلدية". تقع الارض التي يفلحانها في ترمسعيا قرب مستعمرة شيلو، وهي ارض خصبة فيها عين مياه، مزروعة بالتين تتعرض لتهديدات المستعمرين، كان رد ابو عمر وام عمر زيادة الاعتناء بالارض وزراعتها بخضروات صيفية ( باميا وفاصوليا ولوبيا وبندورة وفقوس). أصبحت الارض أكثر جمالاً وعطاءً ومصدر عيش أساسياً. وكلما ازداد الخوف على الارض ازداد الاهتمام بها.  
ام عمار المرأة المدبرة والمثابرة والواثقة بنفسها التي تعيل أسرة لا يستطيع افرادها مزاولة العمل. تحملت أم عمار المسؤولية بجدارة  من خلال زراعتها للارض موسمين "صيفي وشتوي". اليوم تجد على بسطتها في سوق الفلاحين – البيرة - البندورة والتين والعنب والباميا واللوبيا والبيض البلدي. تساعد المشتري في الاختيار مقدمة خبراتها الصادقة خلافا لبعض تقاليد الباعة في تمرير الثمار غير الناضجة او المعطوبة. استوقفتني البندورة البلدية الزهرية اللون والشهية كثيراً التي كانت متوفرة في زمن مضى ثم انقرضت في هذا الزمان، لكن أم عمار استحضرتها في مواعينها معيدةً الاعتبار للبذور الأصلية الطبيعية لنباتات بلادنا.
هذه النماذج الفلاحية الملهمة وعشرات آخرون من الفلاحين والفلاحات الذين يكدون بزنودهم من أجل حياة كريمة، تجدون هؤلاء في ما اصطلح على تسميته "سوق الفلاحين" في مدينة البيرة، وفي مركز خليل السكاكيني/ رام الله، وفي مطعم "بير" / بيرزيت، وفي نابلس، وربما في بيت لحم وغزة ومدن وقرى جديدة. قصص نجاح لها مغزى عميق في هذه المرحلة العصيبة من حرب إقصاء المحتلين للأصلانيين، وما يطرحه هذا الصراع من تحديات كبيرة  تستدعي استجابات وأعمالاً غير تقليدية، أهمها إعادة بناء الوضع الفلسطيني على أسس جديدة، كالانتقال من اقتصاد ريعي وليبرالية السوق والدعم الخارجي المرتبط بقيود وأجندات متناقضة او متعارضة مع احتياجات الشعب الفلسطيني، الى اقتصاد منتج، يستند الى تطوير الموارد من داخل المجتمع. هذا الانتقال الضروري يتحقق بمشاركة قطاعات واسعة من المجتمع والتجمعات الفلسطينية. مشاركة على قاعدة إعادة الاعتبار للعمل المنتج في الارض وفي المهن والابتكارات التي تتيحها ثورة المعرفة والاتصال، وإعادة الاعتبار للرأسمال البشري،  للإنسان صانع التغيير.   
ما قدمه فلاحون وفلاحات في أسواق الفلاحين ما هو إلا خطوة صغيرة  في الاتجاه المطلوب. كانت البداية من مجموعة شبابية متطوعة أطلقت مبادرة "شراكة" التي هدفها كما أوضح فريد طعم الله احد الشباب المبادرين، الاعتماد على الذات، والسيادة على الغذاء بطرق صديقة للبيئة. انطلقت المجموعة الشبابية كما يقول طعم الله من تنظيم العلاقة بين المنتجين والمستهلكين، يتغير عبرها نمط الاستهلاك عند الناس. بحيث يكون المستهلك أخلاقياً يشتري المنتَج الموسمي المتوفر ويأخذ حاجته او كفايته دون إفراط، ولا يتعاطى مع الشركات التي تحتكر أشكال إنتاج هدفها الربح، حتى لو كان ذلك على حساب البيئة والناس، وفي الجهة الأخرى يعتمد المزارع الأنماط التقليدية المحدثة، يستخدم البذور البلدية بدلاً من البذور المعدلة بيئياً، ولا يستخدم الأسمدة الكيماوية المضرة بالبيئة والتربة والناس. عملية التحويل ليست سهلة مطلقاً، سيما وأنها تأتي في مواجهة الاحتكار الاسرائيلي للسوق بما في ذلك تقييد حركته، فضلاً عن القدرة الاسرائيلية على المنافسة وعرض أسعار اقل. ويستعرض طعم الله اشكالاً من الإعاقة الاسرائيلية التي أفشلت مشروع إنتاج الفطر في اريحا من خلال منع او تأخير استيراد تربة هولندية ضرورية لإنتاج الفطر بعد نجاحه في المنافسة ورفض أصحاب المشروع بيع منتجهم للسوق الإسرائيلي. الإعاقة الإسرائيلية قضت بدورها على مشاريع الزهور والفريز والحليب في قطاع غزة. وفي الوقت نفسه تستمر المساعي الإسرائيلية لإدماج المنتجين الجدد بالسوق الإسرائيلي كما هو حال مشروع "الخيار البيبي" الذي ينتج بكميات كبيرة ويصدر للسوق الإسرائيلي، وهو شبيه بالمعامل الفلسطينية التي تعمل لصالح تجار إسرائيليين في ما يطلق عليه "تعاقد من الباطن". ما يهم صنع حاضنة شعبية للمنتجين الفلسطينيين، تؤكد جدوى الزراعة ومشاريعها الملتزمة بسلامة الناس والبيئة والاخلاق والتراث الجميل. الحاضنة الشعبية لا تتوفر بمعزل عن دعم  المستوى الإعلامي والثقافي. يلاحظ طعم الله غياب النخبة الثقافية الإعلامية عن تجربة سوق الفلاحين، مع وجود مصلحة متبادلة، فالمثقف والإعلامي بحاجة للاقتراب من نبض المواطنين وكفاحهم من أجل الخبز والكرامة وبدون ذلك ينعزل عن قضايا شعبه، والمنتجون الجدد بحاجة الى إيصال تجربتهم وتعميمها. إن إهم ما في هذه التجربة حول التفاعل الحميمي بين المنتجين وتعاونهم ودعمهم لبعضهم البعض، والتفاعل الذي لا يقل أهمية هو الذي يحدث بين المنتجين والمستهلكين، ذلك أن هذا النوع من العمل المنتج ترافقه بالضرورة ثقافة منسجمة معه ومدافعة عنه.
[email protected]