رغم اضطراره للتراجع أو للالتفاف على الإجابة عن السؤال الصحافي، ومضمونه أنه لن يسلم السلطة في حال خسارته الانتخابات الرئاسية التي ستجري مطلع تشرين الثاني القادم، إلا أن إجابة الرئيس الأميركي كانت صادمة، وهي في الحقيقة تعبر عن شخصية الرجل التي تبدو غريبة عن العصر، أي عن القرن الحادي والعشرين، وهي تذكر بشخصيات عاشت قبل قرن وأكثر، شخصيات ديماغوجية، حرضت على التمييز بين البشر ودعت إلى القهر القومي، وقادت بالتالي العالم إلى الحرب الكونية.
من يسمع كلام ترامب عن أميركا والآخرين يظن لوهلة أن صورة القادة الفاشيين قد عادت لترتسم على المسرح السياسي العالمي، ومن يسمعه كيف يتحدث عن الجيران المكسيكيين، وعن السود والملونين، بل حتى حين يقول: إن على الجمهوريين أن يدافعوا عن بلادهم لأنها في خطر، يظن أن الديمقراطيين ليسوا أميركيين، فالرجل باختصار ممتلئ داخله بالكراهية للآخر، وبالاستعداد لفعل كل ما يمكنه فعله من أجل السيطرة والحكم، وبالطبع لا يمنعه من أن يمارس كل فعل يمكن إدراجه في خانات الفاشية والاستبداد، إلا كون الولايات المتحدة ما زالت دولة مؤسسات ديمقراطية.
لكن الديمقراطية الأميركية في حالة اختبار حقيقية، تماماً كما هو حال إسرائيل حيث وصف رئيس الحكومة الأسبق اليميني/ الليكودي، أيهود أولمرت، إسرائيل بأنها دولة محكومة من عصابة مكونة من 3 أشخاص، هم: بنيامين نتنياهو، وابنه، وزوجته، وأن الديمقراطية الإسرائيلية في خطر حقيقي.
أن يشن ترامب سلفاً ومسبقاً حرباً على خصومه، بهذا الشكل، الذي يتجاوز الدعاية الانتخابية، بل وأن يتعرض لمنافسه بشكل شخصي، حين طالب بفحص منشطات له، ثم أن يحاول تبرير الانقلاب على صناديق الاقتراع، بالقول: إنه يعلم أن الديمقراطيين قد زوروا سلفاً آلافاً مؤلفة من بطاقات الاقتراع عبر البريد، وأنه لن يقبل بنتائج الانتخابات حيث سيتخللها التزوير، بالطبع واضح أنه قد اتخذ قراره سلفاً ومسبقاً، وهو في حال إعلان خسارته، سيقول: إنه قد تخلل الانتخابات تزوير يمنعه من تسليم مقاليد الحكم، أما لو فاز فإن الانتخابات لن تكون مزورة!
في حقيقة الأمر، لا بد من التوقف كثيراً ومطولاً عند صفات شخصيتي ترامب ونتنياهو، رغم أنهما يحكمان بلدَين ديمقراطيَّين، لكن يبدو أنه قد تم تطويع النظام الديمقراطي بحيث يمكن التحكم به من قبل أفراد أو مؤسسات بعينها، بعد أن تتقن اللعبة الديمقراطية جيداً، بحيث تسلب المؤسسات إرادتها، كما يفعل نتنياهو مع القضاء، وكما يفعل ترامب مع الإعلام ومع الكونغرس.
إذا كان هذان الرجلان يعتبران الخصوم السياسيين من مواطني بلدَيهما بمثابة أعداء، فكيف يكون الحال مع الأعداء الخارجيين؟ كيف يمكن التعايش مع كل هذه النزعة للتفوق والتمييز، والاستعداد للاستبداد؟
إن صناعة الأشخاص المستبدين والطغاة في التاريخ كانت تمر أولاً من خلال البطش بالآخر الخارجي، ثم تتحول إلى الداخل، فالشخصية السوية التي تؤمن بالتعايش مع الآخر، تبدي ذلك التعايش مع الآخر خارج البلاد والآخر داخل البلاد، والعكس صحيح.
الغريب في الأمر هو أن ترامب الذي بدأ باتهام خصومه مبكراً، وقبل فتح مراكز الاقتراع، بالتزوير، يتناسى أنه ربما كان هو من يفكر في ذلك، خاصة وهو الجالس على مقعد الحكم، وخصمه هو في الجانب المعارض، والأهم أنه لا يقول القول الرصين: إنه في حال ظهور دلالات على تجاوز أو تزوير، فإن الأمر سيوكل للقضاء، وهذا ينطبق على حزبه وحملته الانتخابية كما ينطبق على خصمه الديمقراطي جو بايدن وحملته الانتخابية أيضاً.
لكن ترامب رجل أهوج، ولو كان الناخبون كلهم من العقلاء لما سمح له من الأصل بأن يكون مرشحاً، فضلاً عن أن يكون رئيساً لأكبر أو أقوى أو أهم دولة حالياً في العالم. وإن نظرة استعراضية لشخصية الرجل تثير الغرابة فعلاً من الكيفية التي صار فيها رئيساً للولايات المتحدة وهي تقود العالم في عصر النظام العالمي أحادي القطبية.
منذ أسبوعين، أي حين رعى في مشهد مسرحي توقيع اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين، بدأ الحديث عن أنه سيتقدم للحملة الانتخابية كرجل صانع للسلام التاريخي، لكنه يعرف أن ذلك لن يكون كافياً لصد الانهيار في مكانته جراء معالجته السيئة لـ"كورونا"، ولتدهور الاقتصاد وتراجع مكانة بلاده في العالم، لذا كلما اقتربت ساعة الاقتراع، يزداد توتر الرجل، ذي الثقة المهزوزة بالنفس، فيخرج عن طوره، ويهدد بعدم تسليم السلطة، ويتدارك القول بشكل هزلي معللاً ذلك بأنه لن يخسر الانتخابات؟!
أليس هناك من احتمال طبيعي؟ بل ليس هناك سوى أحد احتمالين، هما: إما الفوز أو الخسارة. وفي حال الخسارة عليه أن يخرج من البيت الأبيض، فلماذا يرفض المنطق لهذه الدرجة، إلا إذا كان يحاول أن يوقف عقارب الساعة، أو أنه بالتهديد يحاول أن يؤثر على الناخبين؟
وقد سبق لأوساط حملته أن فكروا في احتمال تأجيل الانتخابات بسبب "كورونا"، ولأن الاقتراع عبر البريد كان حلاً، فهو يحاول أن ينزع هذا الحل، ويقنع الناس بأن التزوير متلازم مع الاقتراع عبر البريد، لذا إما تأجيل الانتخابات أو إلغاء نتائجها في حال جاءت في غير صالحه.
لقد عبّر ترامب طوال أربع سنوات مضت عن كل مشاعر الكراهية للآخرين، ولم يقتصر الأمر على من هم خارج بلاده، بل كذلك لم يقتصر الأمر على غير البيض من مواطني بلاده، بل شمل الحزب الديمقراطي لأنه خصم سياسي، وأحد مُركبَي النظام الديمقراطي الأميركي، الذي كثيراً ما وصفه بالشيوعي، وها هو يعتبره خطراً يهدد البلاد، وكأنه حزب صيني مثلاً وليس أميركياً! لذا ففي حال خسارته لن يشعر نصف الأميركيين فحسب بالارتياح، بل معظم سكان الكرة الأرضية، لأنهم سيستعيدون الثقة بنظام يقود العالم.