المفترض أنّ هذا التحالف الإيراني، الذي يضم تركيا «الإردوغانية» وسوريا بشار الأسد وعراق المكونات الطائفية، قبل أن يصبح مصطفى الكاظمي رئيس وزراء له، والذي يضم أيضاً «حوثيي» اليمن و«حزب الله» اللبناني من خلال ضاحية بيروت الجنوبية، قد انهار نهائياً وتفرّق شمله وحلَّت محلّ هؤلاء الذين يسيطرون عليه قوى وطنية غير مرتبطة إلا بشعوبها وبأشقائها العرب الذين على غرار ما كانت عليه الأمور قبل أن تتغير موازين القوى في هذه المنطقة بعد ما سمّي «الربيع العربي» الذي ثبت أنه ربيعٌ إيراني وأيضاً «عثمانيٌّ»، وفقا لما يردّده ويصرُّ عليه رجب طيب إردوغان.
لقد كان متوقعاً في البدايات المبكرة أنْ ينحسر هذا النفوذ الإيراني عن هذه المنطقة، وأن يستعيد العرب، إنْ ليس وحدتهم، فعلى الأقل تضامنهم، ما داموا سيشكّلون القوة الرئيسية في هذه المنطقة الحيوية، إنْ هم حققوا ولو الحدّ الأدنى من مثل هذا التضامن الذي كان قد ساد في فترة من الفترات السابقة، وبحدود كانت تعد معقولة ومقبولة، وبخاصة قبل أنْ تكون هناك كارثة ظاهرة الانقلابات العسكرية.
والغريب فعلاً أنه وبمجرد أنْ حلَّ «الربيع العربي» حتى تكشّفت الأمور على حقائقها، وأنّ حتى الذين كانوا يرفعون الشعارات القومية المتلألئة: «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة»، ثبت أنهم طائفيّون و«مذهبيّون»، وأنّ الولاء الحقيقي في دول الأحزاب التي تدّعي أنها عروبية، ليس للعروبة، وإنما للطوائف المتنفذة. وهكذا، فقد كان هناك كل هذا الاصطفاف المذهبي حول دولة الولي الفقيه في طهران، الذي كان قد بدأ منذ الأيام الأولى في ثورة عام 1979.
ثم وبالنسبة إلى الثورة الإيرانية، التي كانت قد ارتدت العمامة الخمينية في عام 1979 ومنذ البدايات فإنَّ بعض العرب الذين كانت توجهاتهم قومية قد استداروا بقلوبهم وبتطلعاتهم إلى طهران، على اعتبار أنها قد أصبحت «قبلتهم» السياسية، لكن ثبت أنّ هذه الثورة ثورة إيرانية وفارسية، وأنّ أول تصريح أطلقه الخميني في مجال علاقات إيران الجديدة، هو أنّ الجزر الإماراتية الثلاث: «إيرانية، وأنها ستبقى إيرانية إلى يوم القيامة»!
وهكذا فقد ثبت أنَّ الإمام الخميني الذي قضى شطراً طويلاً من عمره ومن مسيرته السياسية ومن معارضته لشاه إيران محمد رضا بهلوي في العراق، الذي كان يحكمه حزب البعث، كانت توجهاته ودوافعه الأساسية والرئيسية طائفية ومذهبية، وأنّ أول ما فعله بعد انتصار ثورته هو أنه قد لجأ إلى التحريض المذهبي إنْ في بلاد الرافدين وإنْ في سوريا وأيضاً وإنْ في لبنان وفي اليمن وبعض الدول الخليجية، مما أدى إلى حرب الأعوام الثمانية المدمرة، وأدّى إلى اصطفاف طائفي بأبعاد سياسية في بعض الدول العربية التي بقي «سُنّتها» و«شيعتها» متآخين قومياً ووطنياً لسنوات طويلة.
وحقيقةً، إنّ هذه الجرثومة الطائفية، التي تشبه «فيروس كورونا» القاتل، ورغم أنها قد تفشت في بعض الدول العربية التي كانت توصف ولا تزال بأنها قومية، فإنها لم تلتقط إلا المصابين بعُقد نقصٍ قديمة، وأنّ «الشيعة» العرب بغالبيتهم كانوا وما زالوا روّاد العروبة والوحدة القومية، والمثال الواضح في هذا المجال هو شيعة العراق وشيعة لبنان وشيعة بعض دول الخليج العربي و«زيديّو» اليمن و«علويّو» سوريا الذين كانت غالبية رموز البعثيين والقوميين منهم، والذين امتلأت السجون السورية حتى في فترة ما يقال إنه حكم حزب البعث بهم، وحيث إن بعضهم لا يزالون مطاردين إنْ داخل «القطر العربي السوري» نفسه، وإنْ في بعض الدول العربية والعديد من الدول الأوروبية.
ورغم هذه الحقائق كلها فإنه لا بدّ من تأكيد أنّ بعض الأمور التي بات يعدها «الطائفيّون» مسلّمات مؤكدة، غدت تفعل فعلها في كل المجالات السياسية إنْ في لبنان وإنْ في سوريا، التي كانت توصف بأنها «قلب العروبة النابض»، وأيضاً إنْ في العراق وإنْ في اليمن، وإنّ ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أنّ هذا الوباء المرعب بات يشهد حالة انحسار متواصلة، على اعتبار أنّ المرحلة «الخمينية» بات يتهدّدُها الزوال الفعلي، وإنّ الإيرانيين بمعظمهم ما عادوا يطيقونها بعدما أقحمتهم في كل هذه الحروب العبثية، وأوصلت بلدهم بلد الخيرات إلى كل هذه المصائب المرعبة وشتّتت كفاءاتهم في أربع رياح الكرة الأرضية.
وهنا وإذا عدنا إلى لبنان، فإنّ المؤكد أنّ كثيرين، وبخاصة الأجيال الصاعدة، لا يعرفون أنّ «الشيعة» اللبنانيين كانوا الداعم الرئيسي لـ«المقاومة الفلسطينية»، وأنهم قد «فتحوا» الجنوب اللبناني للشعب الفلسطيني المنخرط في هذه المقاومة، وأنهم قد تحملوا في هذا المجال ما لا تتحمله رواسي الجبال من تجاوزات بعض الأطراف والفصائل التي كانت تدّعي زوراً وبهتاناً أنها تشكل جزءاً من الثورة الفلسطينية، لكن ومع ذلك فإنّ اتجاههم بقي هو هذا الاتجاه الوطني... وأيضاً القومي، وذلك مع أنّ التدخل الإيراني الذي أصبح سافراً في سنواته الأخيرة قد ألْحق بعضهم في هذا المجال المذهبي، وجعلهم يتخلّون عن ذكرياتهم الوطنية والقومية الجميلة السابقة، عندما كان رمزهم ذلك الوطني الكبير الإمام موسى الصدر، رحمه الله، ويتحلّقون حول حسن نصر الله الذي حوّل ضاحية بيروت الجنوبية إلى «مثابة» إيرانية، وتمكّن من تحويل بعض الشيعة اللبنانيين إلى أتباع لقاسم سليماني، الذي كانت نهايته في مطار بغداد وعلى أيدي الأميركيين كما هو معروف.
وعليه وفي هذه الحالات كلها فإنّ الواقع العربي قد أصبح، في الحقيقة التي لا بد من قولها، أنه «لا يسُرُّ الصديق ولا يغيظ العدا»، وإنّ حالة التشرذم هذه التي بات يعيشها العرب إنْ ليس كلهم فبمعظمهم، قد جعلت بعض دول المنطقة تتطاول عليهم وتستهدفهم وبخاصة تركيا الإردوغانية وإيران الخامنئية وأيضاً وإسرائيل، التي لا تزال تحتل فلسطين كلها وتحتل هضبة الجولان... وتواصل قصف العديد من المناطق السورية... وبعض المناطق العراقية وأيضاً بالطبع اللبنانية.
وإزاء هذا كله فإنّ المفترض أن تكون هناك «صحوة عربية» إنْ على مستوى الشعوب وقواهم السياسية، وإنْ من الدول التي تتمسك بعروبتها والتي بات يعرّضها التزامها القومي إلى تطاولات متعددة، إنْ من هذه الـ«إيران» التي تجاوزت حدودها كثيراً، وإنْ من تلك الدول «المايكروسكوبية» التي باتت تشعر بـ«الانتفاخ» العسكري والسياسي بعد ارتمائها في أحضان الأتراك والإيرانيين، وإحساسها بأنها قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة!
وهكذا وفي النهاية، فإنّ المفترض ألا يكون هناك كل هذا الانحياز الإيراني «الخامنئي» وكل هذا الانحياز التركي (الإردوغاني) ضد العرب... كعرب، والمعروف أنّ الإسلام العظيم قد جمع هذه الأمم الثلاث في إطاره الحضاري، وعلى مدى كل هذه السنوات الطويلة، وأنه لا يحقُّ لإردوغان، الذي من الواضح أنه يعاني من عُقدٍ سياسية وتاريخية، أنْ يتصرف بهذه الطرق الاستعلائية وعلى أساس أنه عثماني، ويدّعي أن أرض ليبيا هي أرض عثمانية، هذا مع العلم أنّ الذي دفن باقي ما تبقى من أي تراث عثماني هو مصطفى كمال (أتاتورك)، وأنه لم يعد للعثمانيين وجود لا في تركيا ولا في غيرها، وإنّ «إمبراطوريتهم» قد زالت نهائياً حتى من كتب التاريخ، ومثلها مثل كل «الإمبراطوريات» التي كانت قد مرّت على هذه المنطقة، ثمّ لم يعد لها أي وجود على الإطلاق، ولا تعرف عنها أي شيء الأجيال الصاعدة... وبخاصة الأجيال التركية!