مفاهيم كثيرة تأسست عليها العقلية الفلسطينية (وخاصة الشعبية) كان لها، وما زال، أثر قوي في تحريك وتوجيه الوعي الجمعي والفعل الجماهيري، وللأسف في أغلب الأحيان باتجاهات سلبية.

منها مثلا مقولة أن الرخاء الاقتصادي المنوي تحقيقه عبر ما يسمى «السلام الاقتصادي» سيؤدي إلى فتح الحدود، وإزالة الحواجز، وتسهيل وصول العمال إلى داخل الخط الأخضر، وحصول التجار والمستثمرين على بطاقات VIP.. إلخ، وهذا بدوره سيؤدي إلى انشغال الناس بأرزاقهم وحياتهم اليومية، وبالتالي التوقف عن الفعل النضالي..

ألم يكن هذا هو الحال بالضبط في نهاية الثمانينيات؟ حين كان بوسع أي أحد دخول القدس ويافا وتل أبيب، ألم يكن بوسع أي تاجر (دون بطاقة خاصة) الوصول إلى الداخل وعقد الصفقات التجارية؟ ألم يكن العملاء يحملون مسدساتهم، والناس تطلب ودهم من أجل الحصول على تصريح؟ هذا الحال هو الذي خلق الانتفاضة الكبرى، حيث لم تكن مشكلة الناس الوضع الاقتصادي، بقدر ما كانت القضية سياسية، وجوهرها الحرية والتخلص من الاحتلال.

مغالطة أخرى شبيهة، مفادها أن السلطة الوطنية أغرقت الموظفين في قروض بنكية، بحيث صار همهم الحصول على شقة، أو سيارة، وبالتالي صاروا مرتهنين للبنوك، الأمر الذي قيدهم، وكبلهم، وأعاقهم عن ممارسة النضال، والانخراط في المقاومة.. إلخ.

بمعنى أن الفلسطيني صار قبل أن يخرج في مظاهرة أو مسيرة احتجاجية أو مواجهة مع الجنود.. وقبل أن يقوم بأي فعالية نضالية يقول لنفسه: لا يمكنني فعل ذلك، فأنا مقترض من البنك!! والشاب يخاف من حمل السلاح، لأن الجيش سيهدم بيته (المرهون للبنك)، ومن بعدها سيقوم البنك بمصادرة بيته المهدم! لا أعرف ما هي العلاقة بين ممارسة حق طبيعي وحياة عادية كشراء بيت أو سيارة وبين الفعل النضالي؟ هل يشترط أن يكون المناضل فقيراً ومعدماً؟ هل أبناء الطبقات الوسطى والثرية ليسوا مناضلين بالضرورة؟ هل على الفلسطينيين أن يوقفوا حياتهم الطبيعية؟

على أية حال، العلاقة بين المال والثورة علاقة ملتبسة منذ زمن بعيد، فمثلاً بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية ظهرت مقولة «المال أفسد الثورة».. وطبعاً، لم يكن للثورة (ولا لأي ثورة) أن تقوم وتنهض وتقوى دون المال؛ فالجيوش لا تزحف على بطونها. السلاح والذخيرة والإمدادات بأنواعها تحتاج للمال، بعض المناضلين لم يتفرغوا للثورة وبقوا على رأس عملهم، فلم يحتاجوا لمال الثورة بشكل مباشر، لكن مناضلين كثراً انخرطوا في الثورة وتفرغوا للنضال، وهؤلاء لا يعيشون على الطاقة الشمسية، فهم بحاجة لطعام وشراب ودواء ومسكن، ومن الطبيعي أن يتزوجوا وينجبوا وبالتالي أولادهم بحاجة لمدارس وجامعات وملابس.. وهذه ليست بالمجان.. الثورة ليست فقط بنادق وثوار، الثورة فعل سياسي ودبلوماسي وإعلامي وفكري وبناء مؤسسات.. وهذه تحتاج موازنات حتى تكون فاعلة ومؤثرة. المشكلة ليست في المال، بل في إساءة استخدامه، والمناضلون ليسوا ملائكة، ومن المتوقع أن تظهر بينهم حالات فساد، شأنهم شأن أي تجمع بشري مهما كانت مقاصده نبيلة.

مغالطة أخرى وهي الأكثر شيوعا، موضوع التنسيق الأمني، والتحجج بأنه العقبة أمام الكفاح الوطني، والسد الذي منع الفلسطينيين من ممارسة دورهم في النضال.. إلخ.. حسناً، التنسيق الأمني شر مستطير، لكنه متوقف كلياً منذ أكثر من ستة شهور، وخلال هذه الفترة لم تُنفذ عملية واحدة.. التنسيق الأمني غير موجود في غزة، ولا في مناطق C، ولا داخل الخط الأخضر.. ولا خارج الحدود.. التنسيق الأمني لا يمنع كل أشكال المقاومة الشعبية.
أرى أن موضوع القروض والأموال وأوسلو ومخرجاته، والتنسيق الأمني، وأبناء القيادات وسياراتهم الفارهة.. إلخ، كلها مجرد ذرائع وحجج لمن لا يريد النضال.. لمن يريد إلقاء اللوم على غيره، لمن يبحث عن عذر يريح به ضميره، ومن يبحث عن عدو يمكن شتمه وتخوينه ومحاربته بعقلية تطهرية، ودون تكاليف تُذكر.

العدو معروف وواضح، ومجابهته تكون بالمقاومة الشعبية (لتعذر الكفاح المسلح، لأسباب موضوعية يعرفها الجميع)، والميدان مفتوح، ولا داعي للتذرع بالأوهام.. وبالمناسبة، المقاومة الشعبية ليست خيارا سهلا، ولا هي بالشيء الهين، لها أكلاف عالية، وتحتاج تضحيات وشجاعة، وهي الوسيلة الأنجع والأكثر كفاءة.. وهي خيار صعب، يتطلب مشاركة كل الشعب، بكل فئاته، وليس مجرد مجموعات فدائية تقاتل نيابة عن الآخرين.

وفي الحقيقة، غياب أو ضعف روح المقاومة والمشاركة، وتواضع مخرجات المقاومة الشعبية في هذه الحقبة ليس سببها التنسيق الأمني، ولا فساد السلطة، ولا القروض، ولا ترهل الفصائل، ولا كل هذه الحجج، رغم أنها عوامل معيقة، ومعرقلة، ومهمة، ولا ينبغي تجاهلها.. هنالك أسباب أعمق وأهم، لها علاقة بالظرف السياسي العام، والوضع الدولي والإقليمي، وأسباب ذاتية عديدة يمكن استعراضها في دراسة منفصلة.. ومع ذلك، لا يحق لأحد مهما كان لوم الفلسطيني، أو اتهامه بالتقصير، فالثورات الجماهيرية والانتفاضات والمقاومة الشعبية لا تحدث بالأماني، ولا بقرارات فوقية، بل تحتاج نضوج ظروف موضوعية وذاتية، لا تتوفر بسهولة.

هذه المواضيع أصبحت مادة إعلامية يستخدمها البعض بخفة بهدف جلد الذات، أو تضليل الرأي العام، أو بث روح الإحباط، أو في سياق المناكفات الحزبية، أو من أجل المزاودة، أو لتبرئة الذات والتحرر من المسؤولية وتحويلها إلى جهة ما.

وفي السياق ذاته يمكن إضافة مثال ما يحصل من معاهدات استسلام وتطبيع، وإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ونقل السفارة إلى القدس.. كل ذلك يتم تحميله للدبلوماسية الفلسطينية، وكأنها السبب وراء كل هذا الخراب.. نعلم أن دبلوماسيتنا ليست كما يجب، وأن قضايا فساد تشوب بعض السفارات، وسفارات أخرى لا تفعل شيئا.. حتى لو كان هذا صحيحا، فهو ليس السبب، فالعلاقات الدولية تُبنى على أساس المصالح المشتركة، وإسرائيل وأميركا لديهما تفوق كبير عند الحديث عن لغة المصالح، أو التهديد.

وأيضا، في إطار جلد الذات وممارسة التضليل، كثيرون يلقون باللوم على «أوسلو»، بأنه السبب وراء موجة التطبيع والسقوط العربي، بقولهم بأن الفلسطيني أول من طبع مع إسرائيل، بتجاهل مريب لدور الدول العربية في حصار منظمة التحرير وتجفيف مواردها، تنفيذا لتعليمات أسيادهم، حتى لم يعد أمامها سوى خيار أوسلو، حتى بعد انتهاء مدة اقامة المنظمة في الدول العربية، فضلاً عن الفهم المغلوط للتفريق بين اتفاقية إطار مؤقتة وبين التطبيع.